يوم نجى الله فيه موسى 
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 4 يوليو 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فإن اليوم هو تاسوعاء وغدا عاشوراء أي العاشر من شهر الله المحرم، وهو يوم نجاة سيدنا موسى والذين آمنوا معه من فرعون وبطشه؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَقالَ: ما هذا؟ قالوا: هذا يَوْمٌ صَالِحٌ؛ هذا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ مِن عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قالَ: فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ، فَصَامَهُ، وأَمَرَ بصِيَامِهِ.” فلنجتهد في صيام عاشوراء غدا رغم الطقس الحار غير المألوف وطول النهار ففي الحديث:” “إن الله قضى على نفسه أن مَن عطَّش نفسه لله في يوم حار، كان حقاً على الله أن يُرويه يوم القيامة”. أخرجه عبدالرزاق والبيهقي بسند صحيح. والأجر على قدر المشقة كما في حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، وهي فرصة لتحصيل الأجر وتذكر إخواننا وأهلنا الجوعى في غزة الأبية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله” مسلم.
وأمتنا اليوم مع تعدد جراحاتها واستمرار العدوان والحرب والتجويع على أهلنا وإخواننا في غزة بحاجة إلى السؤال عن سيبل النجاة والخروج من التيه والانعتاق من ربقة الظلم والاستبداد كما وقعت النجاة لموسى عليه السلام رغم بطش فرعون وظلمه، فإننا جميعا نتوق إلى يوم نجاة كيوم عاشوراء ينتهي فيه هذ ا الظلم ويسود العدل ويختفي القتل وبغي الإنسان على أخيه الإنسان. وقد انشغل الصحابة بسؤال النجاة الفردية كما انشغلت الأمة بسؤال النجاة الجماعية؛ فعن عقبة بن عامر قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ؛ ما النَّجاةُ؟ قال: أمسِكْ عليكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتِكَ” سنن الترمذي، ومن أهم رسائل قصة موسى عليه السلام في يوم النجاة ما يلي:
- الإيمان والصبر واليقين: الإيمان بالله واليقين بما عنده وأن الجزاء الأوفى والحياة الحقيقية في الآخرة وليست في الدنيا، وأن الدنيا إنْ هي إلا متاع، وأن الآخرة هي دار القرار ﴿يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39] هذه المعاني هي أهم ما يتسلَّح به الإنسان في هذه الدنيا وفي مواجهة تلك الفتن والمغريات، وهي سبيل نجاة الفرد والجماعة وخروج الأمة من غيابات التيه والخنوع والذل الذي تحياه اليوم، والإيمان واليقين هو سبب التحول الذي وقع لسحرة فرعون وعدم خوفهم من بطشه وتهديده بعد أن كانوا من جنده وسحرته المقربين، فقد هددهم بعد إيمانهم قائلاً: ﴿فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ [طه: 70-71] فكان جوابهم الواثق الموقن ومصدره الإيمان ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه: 72-73]، ولا شيء يدفع أهلنا في غزة إلى هذا الثبات والصبر واليقين والرضا الذي سيسطر في التاريخ بأحرف من نور سوى الإيمان بالله، وهو الذي جعل سحرة فرعون كما قال ابن عباس:” كانوا في أول النهار سحرة كفرة وفي آخر النهار شهداء بررة.
- مركزية دور المرأة في مقاومة الظلم والاستبداد: كان للمرأة دور مركزي في قصة موسى عليه السلام فهذه أمُّهُ المستسلمة لأمر الله تلقي رضيعها في اليم موقنة أن الله سيحفظه ويرده إليها قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7]، وهذه مريم عليها السلام أخت موسى تبر أمها وتحنو على أخيها وتخاطر بحياتها وتقنع زوجة فرعون أن تخرجه من القصر للرضاعة دون أن تشعرهم أنها أخته ولا المرضعة أمه قال تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 11-13]، وهذه امرأة أخرى في القصة وهي آسية زوجة فرعون التي لامس الإيمان شغاف قلبها فآمنت بالله وكفرت بفرعون وتبرأت من عمله وثبتت أمام تعذيبه حتى ضرب الله بها المثل في الإيمان والرضا قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [التحريم: 11]، وقد ضربت المرأة الغَزِّية أروع الأمثلة في التضحية والفداء والثبات على المبدأ والدفاع عن المقدسات وتجسيد العزة والكرامة.
- الاتحاد والتآخي: لقد أدرك موسى عليه السلام أنه مهمة مقاومة فرعون بطغيانه وبطشه تحتاج إلى دعم ومؤازرة فكان طلبه ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾ [طه: 29-32] وطلب وجود الأخ يقويه ويعينه على الشدائد والصعاب قال تعالى: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ﴾ [القصص: 34-35]، وقد تطلبت الهجرة كذلك صحبة معينة صالحة: ﴿ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة: 40] وفي هذا إشارة واضحة إلى أهمية الأخوة والاتحاد في مواجهة الصعاب ومقاومة الاستبداد والطغيان، فهل تآخى العرب وتعاضدوا في مواجهة الأخطار التي تحيط بهم أن تفرقوا وتدابروا بل وتآمروا على بعضهم؟! وهل تآخى المسلمون في الغرب وتعاضدوا وهل جسدت المؤسسات الإسلامية قيمة التآخي والاتحاد أم عجزوا عن تحقيق الحد الأدنى منها؟!
- الاستضعاف يعقبه تمكين: حالة الاستضعاف والهوان والخذلان التي تحياها الأمة اليوم قد توحي بأنها لن تنهض من كبوتها أو تقوم من رقدتها خاصة مع قوة عدوها وتقدمه وسيطرته، وهو ذات مشهد بطش فرعون وجبروته وسيطرته حيث قرر قتل كل مولود ذكر يولد في بني إسرائيل لما علم أن نهايته ستكون على يده، ولكن شاءت إرادة الله أن يولد موسى ويتربى في قصر فرعون ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى ﴾ [طه: 40] ومكَّن الله لموسى عليه السلام وأنهى بطش فرعون قال تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ ، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص:5، 6]، فوفق السنن والقصص القرآني سيمكن للمستضعفين ولو بعد حين ولكن لابد من ثبات وتضحية وعمل، ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 21].
الله فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين وكن لأهلنا في غزة سندا وغوثا يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.