هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 25 يوليو 2025م
الحمد لله ناصر المستضعفين، مذل المستكبرين، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وهو على كل شيء قدير، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، وبعد فلا أدري بأي لسان أنطق أم بأي لغة أتحدث، أتحدث بلغة البكاء والرثاء على حال أمتنا المكلومة العاجزة عن استنقاذ أهل غزة من الموت جوعاً وهي تشاهدهم على الهواء يسقطون واحداً تلو الآخر، أم أتحدث بلغة الشكوى ولمن أشكو، أشكو حكامنا الذين هم سبب مأساتنا فحاصروا إخواننا وأسلموهم لعدوهم ومنعوا عنهم الغذاء والدواء، أم أشكو للعالم الغربي المتحضر وللدولة القوية راعية الحريات في العالم التي لا تبالي بتجويع الأطفال وحصارهم وقتلهم والصمت عن قتل من يقصد الأماكن الآمنة بحثاً عن كسرة خبز أو حفنة طحين، لا نشكو إلا لله ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، أم أتحدث بلغة الاعتزاز والفخر بصمود وصبر وثبات أهلنا وإخواننا في غزة وقد قدموا والله ما عليهم وزيادة.
لقد بلغ من فظاعة وشناعة وجرم قتل الناس جوعا في غزة أن خرج جمهور العدو في تظاهرة رافضة للتجويع مطالبة بإدخال المساعدات لأهل غزة، ولم تخرج مثلها في العواصم العربية والبلدان المجاورة لغزة الأبية الصامدة التي يراد تركيعها وتهجير أهلها وارتكاب أكبر جريمة تطهير عرقي في التاريخ الحديث على مرأى من الناس ومسمع، وبث مباشر على الهواء يبكى فيه مراسل تلفزيوني من شدة الجوع، وتتحول صور الناس إلى هياكل عظمية، بلغ من عِظَم المأساة أن يصعد خطيبٌ غزي المنبر فيقول للناس: ليس لدى طاقة للتحدث إليكم من شدة الجوع، وليس لديكم طاقة للاستماع من شدة العطش. أقم الصلاة!!
وأمام هذه المأساة الإنسانية لأهل غزة وحالة العجز والهوان التي تحياها الأمة لابد لنا هذه الوقفات والواجبات:
1- حرمة النفس الإنسانية وتعظيمها في الإسلام:
حصر علماء الأصول كليات الشريعة في خمس وهي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، ولقد بلغ من تعظيم حفظ النفس الإنسانية في الإسلام أن قدمها عدد كبير من الأصوليين على حفظ الدين ومن هؤلاء العلماء: الرازي، والقرافي، والبيضاوي، وابن تيمية، والإسنوى، والزركشي، وذلك لأن حفظ الدين لا قيام ولا تمام له إلا بحفظ النفس، ولأن الله تعالى أباح التلفظ بكلمة الكفر للحفاظ على النفس قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾ [النحل: 106]، ورخص للمريض ترك فريضة الصيام حفاظا على النفس قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، ورؤية أهل غزة يموتون جوعا دون فعل شيء لاستنقاذهم هدم لكلية من كليات الشريعة التي أُمرنا بتعظيمها، ونحن مأمورون بتعظيم حرمات الله قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ﴾ [الحج: 30]، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَطوفُ بالكعبةِ وهوَ يقولُ:” ما أطيبَكِ وأطيبَ ريحَكِ ما أعظمَكِ وأعظمَ حرمَتكِ والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لحُرمةُ المؤمنِ أعظمُ حُرمةً عِندَ اللهِ مِنكِ مالُهُ ودمُهُ وأنْ يُظنَّ بهِ إلا خيرًا” ابن ماجة والطبراني بسند صحيح. فكيف إذا كان المؤمن الذي يموت جوعاً قد مات دفاعاً عن مقدسات الأمة وعرضها، وجاهد للقيام بالواجب الكفائي والعيني الثابت في رقاب المسلمين جميعا؟!
2- ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا:
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32]
يقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: “ومعنى التشبيه في قوله : أحيا الناس جميعا، حثّ جميع الأمّة على تعقّب قاتل النّفس وأخذه أينما ثقف والامتناع من إيوائِه أو الستر عليه، كلّ مخاطب على حسب مقدرته وبقدر بسطة يده في الأرض، من ولاة الأمور إلى عامّة النّاس.
ومعنى: ومن أحياها، أي: ومن استنقذها من الموت، لظهور أنّ الإحياء بعد الموت ليس من مقدور النّاس، أي ومن اهتمّ باستنقاذها والذبّ عنها فكأنّما أحيا الناس جميعاً بذلك التّوجيه الّذي بيّنّاه آنفاً”
وعليه فالواجب على الأمة أفراداً وجماعات أن تمنع قتل الناس في غزة وأن تبذل كل ما في وسعها لتوقف حصارهم وقتلهم جوعاً، وأن تكشف وتفضح وتمنع من يقاتلهم ويجوعهم ويعين على حصارهم وتجويعهم بالوسائل المقدور عليها والممكنة قانونا، فإن لم تفعل باءت بإثم قتل الناس جميعا ،ومن المقرر في الفقه الحنبلي أنه إذا مات شخص جوعا فعلى جيرانه دفع ديته، فكم على الأمة من ديات؟!
ولا أدري كيف لمسلم أن يهنأ أو يتلذذ بعيش بعد أن سمع صوت المنادي من غزة: أنتم خصومنا أمام الله يوم القيامة!!.
3- الاقتداء بالصحابة عام الرمادة:
عن أبي هُرَيْرةَ قالَ : كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ : “اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ ، فإنَّهُ بئسَ الضَّجيعُ ، وأعوذُ بِكَ منَ الخيانةِ ، فإنَّها بئستِ البِطانةُ” أبو داوود بسند صحيح. وسبحان الله اجتمع في محنة أهل غزة ما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فوقعت الخيانة التي نتج عنها الحصار والتجويع، والقرآن الكريم يَعدُّ الصمت عن المنكر والجريمة دون القيام بفعل لمنعها يعد ذلك مشاركة مباشرة فيها، حتى وإن لم يباشر الصامت المشاهد القتل بنفسه؛ فقد نسب القتل في قصة ناقة صالح عليه السلام إلى قوم صالح رغم أن القاتل واحد معروف ذكره كثير من المفسرين وهو قدار بن سالف؛ قال تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس: 11-15]، وهذا يعني أن الأمة في مجموعها شريكة في الحصار والتجويع ما دامت تشاهد ولا تتحرك للنصرة، وفي عام الرمادة حلف عمر رضي الله عنه ألا يذوق لحما ولا سمنا، حتى يَحيا الناس، وبرَّ عمر بيمينه فأكل الزيت، حتى هزُل جسمه وتغير لونه، ونظر يوماً رضي الله عنه في عام الرمـادة، إلى بطيخة في يد بعض ولده، فقال: “بـخ بـخ يا ابن أمـيـر المـؤمنين، تأكل الفـاكهة وأمة محمد هزلى، فلنقتصد في طعامنا وشرابنا حتى نتذكر الجوعى فنتحرك لإغاثتهم ونصرتهم.
4- المبادرة والعمل المستدام لاستنقاذ الجوعى وإيقاف الحرب:
نحن بحاجة ماسة الآن إلى المبادرات الفردية والجماعية التي تلفت أنظار العالم إلى المأساة وتحركهم لإيقاف الحرب وإدخال المساعدات وإيقاظ الضمير الإنساني من نومه وغفلته، وأن يكون شعارنا ما قاله المهلهل بن ربيعة حين قتل أخوه كليب فقرر أن يمتنع عن طيبات الحياة وأن لا يخلع ثوبه عن بدنه وقال شعره الشهير:
ولست بخالع درعي وسيفي إلى أن يخلع الليل النهار
وحينما هُزم المشركون من قريش في بدر أبى أبا سفيان وحلف على نفسه ألا يمس امرأته ولا يمسه ماء لغسل جنابة حتى يثأر من محمد وأصحاب محمد!!
هكذا كانت نخوة العرب في الجاهلية، فأين نخوتنا وهمتنا في الإسلام؟!
لا يليق أن تبقى حياتنا طبيعية لا يطرأ عليها تغيير مع ما يحدث لإخواننا.
لقد استطاع عمرو بن هاشم الهاشمي بمبادرته وهو كافر أن يوقف حصار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، رغم أنه لم يمت منهم أحد جوعا كما يموت العشرات من أطفال أهل غزة اليوم، فأين أمثال عمرو فينا؟! يجب على أهل الفكر والنظر الاجتماع والتفكير ودراسة الخيارات المتاحة قانونياً وسلمياً مثل:
اللهم إنا نشكو إليك ظلم الأقوياء، وخنوع الضعفاء،
وشح الأغنياء، وعجز الأمناء، و خيانة الأقوياء،
وكيد الأعداء، وخذلان الأصدقاء،
اللهم فانتصر لعبادك المؤمنين، واثأر لجنودك الموحدين،
وانتقم من الطغاة المستكبرين، اللهم كن لإخواننا في غزة معيناً ونصيراً،
وهادياً، ومثبتاً، ومؤيداً، يا رب العالمين،
اللهم ارحم شهداءهم وتولَّ أهلهم من بعدهم،
وكن لهم عوناً ومعينا، وحافظاً وناصراً مثبتاً،
والحمد لله رب العالمين.