إرسل فتوى

وصية نبوية للنجاة من النار

وصية نبوية للنجاة من النار

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 30 أغسطس 2024م

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن القرآن الكريم بطوله وعرضه يذكر بالآخرة ويرغب في الجنة ويحذر من النار، وآفة عصرنا هي كثرة أسباب الغفلة وتعدد موجبات قسوة القلب وجفاف الروح، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث جامع يرشدنا إلى أبواب ثلاثة للنجاة من النار وتجنب قسوة القلب وجفاف الروح:

فقد أخرج الترمذي، والبيهقي، والطبراني بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” ثلاثَةٌ لا تَرَى أَعْيُنُهُمُ النارَ يومَ القيامةِ: عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللهِ، و عَيْنٌ حَرَسَتْ في سبيلِ اللهِ، و عَيْنٌ غَضَّتْ عن مَحارِمِ اللهِ”

وتحديات التحقق بالثلاثة كثيرة في عالمنا المعاصر خاصة في الواقع الأوروبي؛ ذلك أننا نعيش في عالم مادي تتعدد فيه الصوارف عن الطاعات وتكثر فيه الملهيات ومشتتات القلب ومفسدات الروح، مما يجعل أمر البكاء من خشية الله عزيز نادر، والبكاء لا يقصد لذاته وإنما هو علامة على حياة القلب، والقلب إذا صلح صلح سائر الجسد، وإذا فسد فسد سائر الجسد.

 وقد صح في الحديث الذي أخرجه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكَى من خَشيَةِ اللهِ حتى يعودَ اللبَنُ في الضَّرْعِ “

لهذا كان الصحابة يعظمون أمر البكاء من خشية الله ويعدونه علامة على حياة القلب، مرَّ أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قوم من أهل اليمن يبكون وهم يسمعون القرآن، فقال: هكذا كنا ثم قست القلوب!!

وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنه يقول: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلى من أتصدق بألف درهم.

وهذا لأن العلاقة وثيقة جدا بين القلب والعين، فمتى بخلت العين بالبكاء من خشية الله دلَّ ذلك على قسوة القلب ومرضه وربما موته، فلنتعهد قلوبنا ونبذل جهدنا لمحو الران من عليها لندخل في الصنف الأول الذين لا ترى أعينهم النار يوم القيامة.

والصنف الثاني في الحديث هو صاحب العين التي ترابط وتحرس في سبيل الله، وقد لاحظت في عدد من الأحاديث الربط الدائم بين البكاء من خشية الله وإراقة الدم في سبيل الله؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:”  ليس شيءٌ أحبَّ إلى اللهِ من قطرتَيْن وأثرَيْن: قطرةُ دموعٍ من خشيةِ اللهِ، وقطرةُ دمٍ تُهراقُ في سبيلِ اللهِ” أخرجه الترمذي بسند حسن، وبقيه الحديث السابق وهو قوله صلى الله عليه وسلم:” لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكَى من خَشيَةِ اللهِ حتى يعودَ اللبَنُ في الضَّرْعِ ، ولا يجتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخَانُ جهنَّمَ” ولعل السر والله أعلم هو أن خشية الله وظهورها في رقة القلب وبكاء العين تنتج الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها وبذل الروح رخيصة في سبيل الله، فهنيئا لأهل غزة المرابطين منذ قرابة العام، وعلينا أن نراجع حالنا مع الصنف الثاني وكيف السبيل للدخول في زمرته، ويبدو لي أن الحراسة في سبيل الله عامة لا تقتصر على حماية حدود الأوطان بالسلاح، وإنما حراسة العقول بالعلم والتعليم، وحراسة التربية الفكرية والروحية، وحراسة المال بالقوة الاقتصادية، وحراسة كل باب تحتاجه الأمة ولابد من سده وهو معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:” موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود”.

وأما الصنف الأخير فهو العين التي غضت عن محارم الله، وغض البصر عن محارم الله أمر شاق جداً في عالم اليوم مع سهولته وتزيينه وتجميله ومحاصرته للشباب والناس في كل مكان، والجامع المشترك بين هذه الثلاثة هو ما يلي:

1-مجاهدة النفس:

فحتى يبلغ العبد درجة الباكي من خشية الله يحتاج إلى مجاهدة نفسه بالاستقامة على العمل الصالح وتجنب الفواحش، والانتظام في الأوراد اليومية؛ ولهذا في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله جاء صنف: ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه آخر الأصناف، لأنه سُبق بمجاهدة وعمل بتعلق القلب بالمسجد، وانتظام الصحبة الصالحة، ومقاومة النفس في شهوة الفرج، وحب المال، وكل ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة وجهد ومجاهدة للنفس، وكذلك الحراسة في سبيل الله تحتاج إلى مجاهدة للنفس التي تبحث عن الأمان والسلامة والاستمتاع بالدنيا، والعين بطبيعتها تميل إلى النظر إلى المحرمات ولا تشبع منها ولا تمل، وهي أكثر الشهوات حاجة للمدافعة والمجاهدة، ومن لمح فجر الأجر هان عليه ظلام التكليف.

 

2- صلاح القلب:

العيون الثلاثة التي لا ترى النار يوم القيامة والمذكورة في الحديث الشريف أصحابها قلوبهم نظيفة، فبكاء العين فرع عن رقة القلب، والجود بالنفس فرع عن يقين القلب في موعود الله، وانقطاع العين عن المحرمات فرع عن قلب امتلأ إيمانا ورأى في حلاوة الإيمان عوضاً عن التلذذ برؤية المحرمات.

3-السرية والخفاء:

يعظُم العمل عند الله بقدر ستره وإخفائه عن أعين الناس ليكون خالصا لوجه الله وحده، فالدمعة الخاشعة لا يعلم أحد صدق صاحبها إلا الله، وقد يبذل الرجل روحه ونفسه لشهرة أو مغنم، وقد يغض الرجل بصره طلباً لثناء أو مدح من الخلق وهو عن الخالق غافل؛ لهذا ختم الله آية غض البصر بقوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ‌يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30] ، فمن طلب النجاة والأمان من النار يوم القيامة عليه بمجاهدة نفسه، وإصلاح قلبه، وإخلاص عمله.

اللهم أصلح فساد قلوبنا، وطهر أعمالنا وأقوالنا من الرياء والنميمة، وفرج عن أهلنا وإخواننا في غزة وأطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي
المقالات: 161