إرسل فتوى

وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الجريحة

وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمته الجريحةunnamed

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 29 أغسطس 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد،

فكلما أهل علينا شهر ربيع الأول نذكر حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم ورسالته النيرة الطاهرة المطهرة، ونعرض حالنا على سيرته وسنته فنُصحِّح مسيرتنا وفق سنته، ونجدد محبته في قلوبنا وقلوب أولادنا، ونخاف ونحذر أن نُحرم شفاعته ومرافقته في الجنة بهجرنا لهديه وسنته، وكم كررت وأكدت مراراً على ضرورة وأهمية عناية المسلمين في الغرب بالمناسبات الدينية في مقدمتها ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإخراج الحدث من التشويش عليه بفروعه الخلافية؛ كالاختلاف حول تحديد يوم مولده، والاختلاف حول حكم الاحتفال ومشروعيته، وغير ذلك مما يثار في هذه المناسبات، وشبابنا منهم من يخرج من الدين إلحاداً، ومنهم من لا يعرف نبيه جهلاً، ومنهم من هجر سنته فتوراً وضعفاً، والواجب استثمار كل حدث يذكر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته ويحي محبته في قلبوهم وليس أنسب لذلك من شهر مولده صلى الله عليه وسلم.

وتأتي علينا الذكرى الحبيبة إلى قلوبنا هذا العام وجرحنا في غزة مفتوح لم يلتئم، وصرخات وأنات الأمهات الثكالى لم تتوقف، ومواكب جنازات الأطفال الذين قضوا جوعا في تتابع، وجروح ومظالم أخرى لأمتنا في بقع وبلدان لا تنتهي، وحالة من العجز والضعف والهوان لا إفاقة منها.

وأمام هذا المشهد الحزين الموجع ومع قرب يوم مولده صلى الله عليه وسلم سرحت بخيالي وقلت لو كان بيننا الحبيب صلى الله عليه وسلم الآن ماذا سيقول لنا وبم سينصحنا، فعدت إلى سيرته وسنته وتخيلت أنه بأبي وأمي يمكن أن ينصحنا بما يلي:

إياكم والغثائية:

لقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الغثائية في حديث ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومِن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: “حب الدنيا، وكراهية الموت” أبو داوود بسند صحيح.

فقد شخَّص النبي صلى الله عليه وسلم لنا في هذا الحديث أصل الداء وهو بلوغ مرحلة الوهن الناتجة عن حب الدنيا وكراهية الموت، أي: الركون إلى الراحة والكسل الحضاري وترك التضحية لأجل الحق والمبدأ وإيثار المصالح الزائلة وكل هذا ينتج ضعف إرادة الأمة في مواجهة عدوها أو نهوضها الحضاري.

والخروج من حالة التيه والوهن والغثائية إنما يكون بالاعتصام بالوحي، والدعاء بالثبات والسلامة من الفتن، وإحياء قيم الإسلام في نفوس المسلمين في مقدمة هذه القيم تحرير المستضعفين ونصرتهم وإغاثتهم، وتوصيف النبي صلى الله عليه وسلم للمرحلة لا يعني البقاء فيها وإنما ضرورة ولزوم السعي للخروج منها.  

2- وحدوا صفوفكم:

لقد أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً بوحدة الصف وجمع الكلمة وحذرنا من الخلاف والفرقة وأنها الخطوة الأولى والأكبر في طريق الضعف والسقوط الحضاري وهي أول ما يقوم به العدو والخصم.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” علَيكُم بالجماعةِ، وإيَّاكم والفُرقةَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ معَ الواحدِ، وَهوَ منَ الاثنَينِ أبعدُ، مَن أرادَ بَحبوحةَ الجنَّةِ فلْيلزَمِ الجماعةَ.” الترمذي بسند صحيح،

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إنَّ الشَّيْطانَ قدْ أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، ولَكِنْ في التَّحْرِيشِ بيْنَهُمْ” رواه مسلم.

وقد تفرقت الأمة واختلفت في وقت عصيب هي أحوج ما تكون فيه للاعتصام والوحدة، وخالفت بذلك وصية وتحذير نبيها، ولم يقدم المسلمون في أوروبا نموذجاً راشداً في الاعتصام وجمع الكلمة بدءاً من الأسرة مروراً بالمؤسسات إلى الصورة الإجمالية العامة ففرَّقتهم المذهبيات والقوميات والأيدلوجيات وتناسوا كل أسباب ومقومات وحدتهم، وملف الاعتصام والوحدة يحتاج إلى مثابرة وتضحية وعمل فقد تأملت كثيراً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سألت ربي لأمتي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدةً، سألته أن لا يهلكَ أمتي بسنةٍ عامةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يسلطَ عليهم عدوًا من غيرِهم فيجتاحَهم فأعطانيها، وسألته ألا يجعلَ بأسَهم بينهم فمنعنيها” لماذا منعه الثالثة وأمره بين الكاف والنون والجواب: كأنه يقول لنا ما لا تقدرون عليه كفيتكم إياه، أما ما يدخل تحت وسعكم ابذلوا جهدكم لتبلغوه.

3- أغيثوا إخوانكم:

اجتمعت في غزة كل أسباب وجوب الإغاثة والنصرة كل بما يقدر ويستطيع ويكفينا هذا التوجيه النبوي المخيف قال صلى الله عليه وسلم: ” ما من امرئ مسلم يخُذلُ امرءاً مسلماً في موطن تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يُحبٌّ فيه نُصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحبُ فيه نُصرته” أبو داوود عن أبي طلحة الأنصاري بسند صحيح.

4- لا تفقدوا الأمل:

المرحلة التي نمر بها الآن اجتمعت فيها كل أسباب الإحباط واليأس وفقدان الأمل، ومن يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته يلحظ أن منهجه دائما بث الأمل وزرعه في وقت الضيق والشدة واستبعاد الفرج أو النصر، ومن الشواهد على ذلك حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: بينما أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل، فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي! هل رأيتَ الحِيرَةَ، بلد ملوك العرب الذين تحت حكم آل فارس؟ قلتُ: لم أرها، وقد أنبئت عنها، فقال: إن طالت بك حياة لترين الظعينة (المرأة) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله، قلتُ في نفسي: فأين دعّار طيئ (قطاع الطريق) الذين سعروا في البلاد؟! ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلتُ: كسرى بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز!!، ولئن طالت بك حياة، لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة، يطلب من يقبله فلا يجد أحدًا يقبله منه” رواه البخاري.

فلنوقظ الأمل في قلوبنا إيقاظا يدفعنا إلى العمل.  

 

اللهم كما آمنا بنبيك ولم نره، نسألك الا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله،

وتوردنا حوضه، وتسقينا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدا،

اللهم أغث أهل غزة وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا،

وبدِّل حالنا إلى أحسن حال والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80