هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
مواقف ورسائل من حياة رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 5 سبتمبر 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
ففي ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم يطيب لنا أن نعيش مع سيرته ونقبس من هديه وسنته لنقتدي ونتأسى به، وسأعرض في هذه الخطبة جانباً من المواقف الجامعة لحزنه وألمه صلى الله عليه وسلم، ما الذي أحزنه وآلمه؟
وهل يحزننا ويؤلمنا اليوم ما أحزن وأوجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وذلك لوجود مفارقات كبرى بين حزننا وحزنه بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم، فأغلب ما يحزننا اليوم دنيوي، وجُلّ ما أحزنه صلى الله عليه وسلم أُخروي، ونحن بحياتنا في الغرب تأثرنا بالحياة المادية وصار تقييم ووزن الأشياء عند كثير منا مادياً محضاً، ولا أبالغ إذا قلت إن صبغ الحياة بالصبغة المادية صار نمطا في الشرق مثل الغرب!!
والرسول صلى الله عليه وسلم يحزن ويضيق صدره كما يحزن البشر قال تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الأنعام: 33] ، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [الحجر: 97]، والذين لا يعرفون الحزن هم فقط أهل الجنة قال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 34].
والمسلم المحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المتأسي به يفرح ويغضب ويحزن ويتألم لفرحه وغضبه وحزنه وألمه، ولا يفعل العكس وهو يعلن محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويحتفي بمولده، فميدان اختبار المحبة في الاقتداء والاهتداء بهديه وسنته، وفيما يلي طرف من المواقف التي حزن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل موقف منها يحمل رسالة لنا اليوم خاصة في السياق الأوروبي:
1- حزنه صلى الله عليه وسلم لانقطاع الوحي عنه:
بدأ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء بقوله تعالى: اقرأ، ثم انقطع الوحي عنه فترة فحزن لذلك حزنا شديداً؛ فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: “كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا، إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا، حَتَّى فَجِئَهُ الحَقُّ، وَهْوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الملكُ؛ فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ…». وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم.
وإنما حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا من زوال اصطفاء الله تعالى له، وانقطاع النبوة عنه، ثم عاد الوحي يتتابع عليه، فعن جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم – وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ: “بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي، زَمِّلُونِي». فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1-5]، فَحَمِيَ الوَحْىُ وَتَتَابَعَ”. رواه البخاري ومسلم.
والرسالة لنا من هذا الموقف هي أن لا ننقطع نحن اليوم عن الوحي وعن أواردنا من القرآن تلاوة وتدبراً ومعايشة، فالقرآن هو روح المؤمن وحياته ونوره الذي يستضئ به في حياته وينير قبره وآخرته، ومن قصَّر في ورده القرآني أو انقطع عنه وانشغل بغيره حقيق به أن يحزن ويتألم ويبكي على حاله!!.
2- حزنه صلى الله عليه وسلم لإعراض قومه عن دعوته:
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على دعوة قومه للإسلام متحرِّقا لاستنقاذهم من النار، والقرآن الكريم يشفق عليه أن لا يهلك نفسه حزنا وألما لإعراضهم وصدهم لدعوته ورسالته قال تعالى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]
والله تعالى يواسي نبيه أن دوره هو البلاغ ومن كفر بعده فلا تحزن لكفره قال تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لقمان: 23]، لكنه يتوجع ويتألم لأنه رسول الرحمة للعالمين قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]
وقد بلغ من حرصه على دعوة قومه للتوحيد أن يخرج للطائف في عام الحزن يبحث عمن يستجيب لدعوته ويؤمن برسالته فلا يجد إلا الصدود والأذى النفسي والبدني.
والسيدة عائشة تصف هذا الحال فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ، كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: “لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ” رواه البخاري ومسلم.
والرسالة لنا من هذا الموقف هي أن نحرص ونتحرق على البلاغ والبيان واستنقاذ من حولنا من جيراننا وزملائنا من النار، بل واستنقاذ وردِّ من شرد من أولاد المسلمين عن الدين إلى التشكك والإلحاد أو الذنوب والكبائر، هل قمنا بواجب البلاغ للدين، وهل تألمنا لحرمان وإعراض الناس عن دعوة التوحيد كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
3- حزنه صلى الله عليه وسلم على قتل سبعين من القراء غدراً:
كما حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقتل سبعين من القراء قُتلوا غدراً في حادثة بئر معونة؛ فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: “جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: أَنِ ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُمُ القُرَّاءُ. فَبَعَثَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ، فَعَرَضُوا لَهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، فَقَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا المَكَانَ” رواه البخاري ومسلم.
ومن شدة حزنه صلى الله عليه وسلم ظل شهراً يقنت عليهم في الصلاة، قال أنسٌ رضي الله عنه: “قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا – قَطُّ – أَشَدَّ مِنْهُ” رواه البخاري.
قارنوا بين حزنه صلى الله عليه وسلم على قتل سبعين من القراء، وبين حزننا على قتل قرابة السبعين ألفا اليوم في غزة منهم 19 ألف طفل، و13 ألف امرأة، وكثير منهم من القراء!! والحزن يدفع إلى العمل لإيقاف القتل وحمام الدم.
4- حزنه صلى الله عليه وسلم على فقد الرموز والقادة في الغزوات:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أقدار الرجال، ورغم علمه وتبشيره بفضل ومنزلة الشهيد ودرجته عند الله إلا أنه حزن حزناً شديداً لمقتل زيدِ بنِ حارِثةَ، وجعفر، وابنِ رواحةَ، في معركةِ مُؤْتَة؛ فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: “لَمَّا جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ، وَجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ – رضي الله عنهم – جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ”.
وقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنهج في أصحابه أن يعرفوا أقدار الرجال العاملين الصادقين لأن بهم الدنيا؛ ففي دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا.
فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله.
ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندرى ما نقول يا أمير المؤمنين؟
فقال عمر: ولكني أتمنى رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة فاستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
فكم فقدنا من الرجال والرموز والقدوات في غزة وغيرها من البلدان والأقطار وما حزنا لفقدهم أو قدرناهم حق قدرهم، إن الرسالة هنا أن نعمل على صناعة وإيجاد هؤلاء الرموز والقادة، فالقلة العاملة خير من الكثرة العاطلة، وأن نحافظ عليهم وأن نحزن لفقدهم.
لم تكن هذه المواقف دعوة للحزن والألم فقد كانت حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرها تبسما واستبشاراً وفرحاً، وإنما أردنا إضاءة حول جانب غائب عنا في الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خاصة في سياق حياتنا المادية، وكثرة أسباب الحزن والألم من حولنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان حزنه عارضاً مؤقتاً، وكان دائم السعي لتغيير الحال وتجاوز حالة الحزن والألم إلى الاستبشار والفرح بنعمة الله وفضله.
اللهم بدل حزننا فرحا، وخوفنا أمنا،
وفرج الكرب وأوقف الحرب عن أهلنا وإخواننا في غزة
وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا،
والحمد لله رب العالمين.