هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
من الكثرة العاطلة إلى القلة العاملة
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 24 أكتوبر 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فإن القرآن الكريم إذا ذكَر (القِلّة) فهو يذكرها غالبًا في مقام المدح والتقدير، والإشارة إلى أنّ القِلّة الطيّبة خير من الكثرة السيئة، وإذا ذكَر (الكثرة) فهو يذكرها غالبًا في مقام الاستخفاف وقِلّة المبالاة، والإشارة إلى أنها لا تُغني ولا تدوم، اللهم إلّا إذا نُسبت الكثرة إلى الله، فإنها حينئذٍ تكون جامعة للحُسنيَيْن؛ لكثرةِ العدد، وجلال القيمة،.
وواقعنا اليوم هو عكس الرؤية القرآنية للقلة والكثرة؛ فنحن نحتفي بالكثرة في كل شيء ولا نكترث للقلة أو نلتفت إليها، فنسعى إلى كثرة المال دون توقف عند البركة فيه أو مصدره أحلال أم حرام؟
ومن الآفات الكبرى في عالم الشبكات والميديا اعتبار الكثرة هي معيار النجاح والتأثير حتى لو كان المضمون تافهاً لا قيمة له، وحتى لو كان مقدمه لا يحمل تكوينا علميا أو تخصصا فيما يقدم، وقد تسربت هذه الآفة بكل أسف إلى الساحة العلمية والدعوية ، ودخل بعض الدعاة سباق الكثرة والبحث عن رفع نسب المتابعات والمشاهدات بكل الوسائل، والتفاخر في المجالس بالأعداد وكثرتها، وهذه الآفة نذير بضعف التكوين العلمي وإيجاد جيل راسخ في تدينه عميق في فهمه للكون والدين والحياة، وهي طريق لتراجع الإخلاص والتجرد لله عزوجل، لقد أصبح معيار تقييم الداعية أو العالم عند الجيل الجديد من الشباب هو عدد متابعيه ومن يشاهدون مصوراته على المنصات والشبكات، وزاحم التافهون وقليلو البضاعة أهل العلم والفضل، وكثرت التفاهة وراجت.
والواقع الأوروبي هو أكثر البيئات تأثرا بهذه الظاهرة شديدة الخطورة على الدين والتدين، فكثير ممن يتصدرون المشهد ويوجهون الشباب دعويا لا يملكون تكوينا شرعيا رصينا يؤهلهم لهذا التصدر، وقد لا تجد لبعضهم تاريخا علميا أو شيوخا تلقى عنهم، وكل ما لديه هو كثرة المقاطع المصورة وعناوينها البراقة حتى لو كانت مقطوعة الصلة بالمضمون، وملايين المتابعين الذين جعلوا منه مرجعية ورقما يصعب تجاوزه وإن كان هو ذاته لا يصدق ما يحدث له!!
وأحداث غزة تؤكد هذا الواقع البائس فقلة ثابتة صابرة صامدة على مدار عامين استطاعت بصمودها أن تغير معادلات الواقع والميدان عند عدوها رغم قلة عددهم وقلة عتادهم، وكثرة عدوهم عددا وعتادا وإعلاما وتحكما في أدوات السياسة والإعلام والمال.
والعرب والمسلمون كثرة عددية هائلة لكنها غير مؤثرة في الحد الأدنى من التأثير.
والمسلمون في الغرب ازداد عددهم زيادة واضحة لكنها كثرة غير فاعلة أو مؤثرة.
والمسلمون الجدد كذلك ازداد عددهم لكن الفاعلين العاملين منهم قلة قليلة جدا، وهذه الإشكالية تحتاج منا إلى وقفات وتأملات لبحث كيفية تغيير تلك المعادلة وإيجاد تلك القلة الفاعلة المؤثرة، وهندسة الكثرة العاطلة بحيث يكون لها أثر ودور أيضا،.
ويمكن إيجاز معالم القلة والكثرة في القرآن الكريم فيما يلي:
1- نماذج قرآنية لاستعمالات القلة الممدوحة:
يصف القرآنُ الكريم الذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين لا يبغون على أحد، ولا يظلمون غيرهم في شيء، بأنهم قليل، فيقول: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: 24]، أي: وهُمْ قليلٌ، و﴿مَا﴾ هذه مزيدة للإبهام والتعجُّب مِن قِلّتهم.
والذين استجابوا لنوح عليه السلام وآمنوا به، ليسوا كثيرًا، بل هم قِلّة، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: 40].
قيل كانوا تسعة وسبعين: زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلًا من غيرهم، والذين يشكرون نِعْمة ربهم قلة؛ ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].
والقلّة المستضعَفة لا يضيرها ضَعفُها ولا قلّتها إذا آمنتْ وأيقنتْ، بل قد تكون هذه القلّة المؤمنة مفتاحًا لنصر الله المبين المفضِي إلى الغلَبة والسيادة والسعادة.
قال تعالى:﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الأنفال: 26]
والجماعة القليلة في ميدان القتال لا تضيرها قلّتها، كما لا تنفع الجماعة الكثيرة كثرتها؛ ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249].
2- نماذج قرآنية لاستعمالات الكثرة المذمومة:
يحذر القرآن الكريم من الإعجاب والاغترار بالكثرة قال تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [المائدة: 100]، والكثرة التي تُعجَب بنفسها لا تغني شيئًا، ولا تقوم مقام القلة الصابرة المتواضعة؛ ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25]
ومن النماذج القرآنية لذم الكثرة أيضا قوله تعالى: ﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 66]، وقوله: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ [الحج: 18]،وقوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم: 8]
وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ﴾ [الصافات: 71]، وقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 116]، وقوله: ﴿إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [هود: 17]، وقوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: 103]، وقوله: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: 50]، وقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا﴾ [يونس: 36]، وقوله: ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾ [الأعراف: 102]
3- الكثرة إذا نسبت إلى الله صارت محمودة:
كل آيات النصر جاءت منسوبة إلى الله قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 126] ، وقال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1] ، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51]
كل الغزوات كان عدد جيش المسلمين فيها ثلث جيش عدوهم، والغزوة الوحيدة التي كانوا فيها أكثر عددا هي غزوة حنين وفيها قالوا: لن نهزم اليوم من قلة وفيها قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: 25]
وهو سبحانه يتحدّث عن نعمه وآلائه ومغانمه فإذا هي كثيرة حسًّا ومعنًى، وعددًا وقيمةً، فيقول: ﴿فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ [النساء: 94]، ويقول: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ [الفتح: 20].
ويتحدَّث عن نعيم الجنة وخيراتها، فإذا هي كثيرة حقًّا وصدقًا: ﴿لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ﴾ [المؤمنون: 19]، ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ* لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة: 32- 33]، ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ﴾ [ص: 51].
4- لماذا مُدحت القلة وذُمت الكثرة:
إنما مدحت القلة في القرآن الكريم لتحليها بصفات وسمات إن تحلت بها الكثرة صارت أيضا ممدوحة محمودة عند الله ومن أهم هذه السمات: أنها عاملة لا عاطلة، ومؤثرة لا متأثرة، ومتوكلة على الله لا متواكلة، وواعية لما يجري حولها مستعدة له، وأنها صلبة الإرادة قوية أمام الرغبات والشهوات قال تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249]
لهذا عدد الأنبياء كان قليلا، والمصلحون المؤثرون الثابتون على المبدأ في كل عصر قلة، والمجددون الذين يبعثهم الله على راس كل مئة سنة أيضا قلة. وذمت الكثرة لغياب البعد الإيماني واغترارهم بكثرتهم وعددهم وعدتهم، وتغييب المدد الإلهي عنهم.
كيف السبيل لتغيير هذا الواقع وإيجاد وتكثير القلة العاملة، وتفعيل وتقليل الكثرة العاطلة؟ لعلنا نكمل حديثنا الجمعة القادمة بحول الله.
اللهم لا تقطع كلمة التوحيد من نسلنا، واجعلنا من جندك العاملين الموحدين المخلصين،
وكن لأهلنا في غزة سندا ومعينا ووليا ونصيرا، واحقن دماء المسلمين في كل مكان
والحمد لله رب العالمين.