من الاعتكاف والعبادة إلى الإصلاح والريادة
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون ألمانيا 21 مارس 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فقد دخلت العشر الأواخر من رمضان ودخل بها الاعتكاف، تلك السُّنة النبوية التي داوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان، وترك الاعتكاف في العشر الأواخر مرة فقضاه في شوال واعتكف العشر الأول منه، ولما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً، ومع بداية العشر الأواخر من رمضان يتجدد القصف والقتل والعدوان وحرب الإبادة الجماعية على أهلنا وإخواننا في غزة دون رعاية لحرمة الشهر الكريم أو تقدير لظروف إنسانية للرجال والنساء والأطفال، وما يجري في غزة في العشر الأواخر من رمضان يفتح الباب لسؤال مركزي ومهم وهو: أيهما أولى في حياة المسلم عموما وفي العشر الأواخر خصوصاً: الاعتكاف والعزلة والانشغال بالتزكية والبناء الروحي للقلب والفؤاد، أم الحركة والعمل والاشتغال بالإصلاح وإنكار المنكر وإغاثة المستضعفين؟ وهذا سؤال مركزي شغل العلماء قديما وحديثا بين من يؤثر العزلة والخلوة وبين يؤثر الحركة والعمل لدين الله، ووجدت مدرستان في النظر لهذه القضية: مدرسة تؤثر العزلة والخلوة ومدرسة تؤثر الحركة والدعوة، واستدلت المدرسة الأولى بنصوص صحيحه منها حديث عقبة بن عامر: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما النَّجاةُ؟ قال: “أمسِكْ عليْكَ لسانَكَ، وليسعْكَ بيتُكَ، وابْكِ على خطيئتِكَ” الترمذي بسند صحيح. واستدلت المدرسة الثانية بحال الأنبياء وسيرتهم الذين أفنوا حياتهم في الحركة والدعوة وبلاغ الدين للناس وبقوله صلى الله عليه وسلم: ” المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ و يَصبِرُ على أذاهُمْ ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ و لا يَصبرُ على أذاهُمْ” ابن ماجة وأحمد بسند صحيح.
والذي أرجحه وأراه أنسب لزماننا وعصرنا خاصة في الغرب هو التوسط بين المدرستين، بتقديم الحركة والعمل لدين الله وتعمير الأرض وفق منهج الله وتحقيق السبق والريادة في سائر المجالات، وجعل إغاثة المستضعفين ونصرتهم خاصة في غزة الآن في مقدمة تلك الواجبات والأعمال، ولكن يجب أن يكون لكل مسلم أوقات وساعات يعتزل فيها الناس ويخلو فيها بربه يزكي نفسه ويغسل روحه ويتفكر في حاله فيتزود بالتقوى ويستعين على الحركة والعمل بهذا الزاد الروحي، ومن أهم المواسم الروحية واجبة الاستثمار العشر الأواخر من رمضان فعلى كل مسلم خاصة في أوروبا أن لا يفوت فرصة العزلة والخلوة الحقيقية مع الله في العشر الأواخر؛ لأننا في زمن طوفان المادية على الربانية، وفي مرحلة جفاف الروح وقسوة القلب وكما يحتاج البدن إلى حمية بدنية لحمايته من الأمراض والعلل، يحتاج القلب والروح إلى حمية روحية لا تتحقق إلا بمثل الاعتكاف والخلوة والتفكر في حال الإنسان مع مولاه كما قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: “ما نفع القلب شيء مثل عزلة دخل بها ميدان فكره” فالعزلة وحدها لا تكفي وإنما لابد من التفكر المنتج لتحسين وترقية العلاقة مع الله تعالى، ومن عجز عن الاعتكاف التام للأيام العشر يمكنه أن يعتكف بعض الأيام أو الليالي أو حتى الساعات، أو الاعتزال لساعات في محراب بيته وإن لم يأخذ المعنى الشرعي للاعتكاف لأنه لا يكون إلا في المساجد، والاعتكاف والعزلة الحقيقية لا تكون إلا بترك الدنيا والعالم الخارجي والبقاء فقط مع الذكر والقرآن والدعاء والتفكر في الكون والنفس، فلا اعتكاف مع الهاتف والشبكات، ولا نتيجة أو ثمرة للاعتكاف إلا بعزلة حقة عن الدنيا وشواغلها، ويمكننا إيجاز معالم الاعتكاف والعزلة التي تنتج الحركة والعمل لدين الله فيما يلي:
- الخلوة مع الله ثمارها الربانية عظيمة: إن اعتزال العبد للدنيا وبقاءه في محاريب المناجاة والتذلل يثمر هبات وعطايا ربانية كبرى تأمل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا﴾ [مريم: 49] ، جاءت الهبات بعد الاعتزال والخلوات، وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: 37] وقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: 38-39]، فالرزق والبشارة كانا بعد عزلة في المحراب وضراعة لله تعالى، ونبينا صلى الله عليه وسلم تحنث وتعبد لله في غار حراء ليكون تهيئة وإعدادا للمهمة العظيمة التي سيحملها وهي البيان والبلاغ للرسالة عن رب العالمين، ولعل عزلتنا وخلوتنا ودموعنا في محاريب المناجاة والتذلل في العشر الأواخر تكون سببا في تفريج الكرب وإيقاف الحرب على أهلنا في غزة الأبية.
- النصوص النبوية ترشدنا للموازنة بين عزلة مؤقتة وحركة دائمة: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قِيلَ: يا رَسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ أفْضَلُ؟ فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ في سَبيلِ اللَّهِ بنَفْسِهِ ومَالِهِ، قالوا: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ في شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَتَّقِي اللَّهَ، ويَدَعُ النَّاسَ مِن شَرِّهِ. البخاري. فقد قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن العامل لدين الله بنفسه وماله في الخيرية والفضل على المنعزل في شعب من الشعاب ولم ينف الفضل عن الثاني، فالأصل أن نتزود من فواصل الاعتكاف والعزلة بزاد إيماني يعيننا على حركتنا الدعوية في المجتمع لا أن ننعزل للعبادة فحسب فندخل بذلك في دائرة مذمومة وهي الرهبانية التي كانت في الأمم الأخرى ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ [الحديد: 27]؛ ولهذا جاءت سورة المزمل قبل سورة المدثر لتشير الأولى إلى قيام الليل والثانية إلى قيام النهار، وأنه لا قيام للنهار دون الليل وأن قيام الليل مؤثر في النهار ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
- الصحابة والأئمة ينكرون العزلة التامة للعبادة: صحح سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عند بعض الناس مفهوما خاطئا حين اعتزلوا المجتمع وتفرغوا للعبادة، فقد حدث أن رجالاً خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريباً يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم: ما حملكم على ما صنعتم؟ قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد. فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا، وما أجمل كلمته فمن يقاتل العدو إذا اعتزلتم! وقتال العدو لا يقتصر على ساحات الوغى وإنما سائر ميادين الحركة والعمل لدين الله من ميدان الفكر إلى السياسة إلى العلم إلى التربية وغيرها، وإذا كنا نضاعف الاجتهاد في العشر الأواخر بحثا عن ليلة القدر فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خير منها فقال: “موقفُ ساعةٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من قيامِ ليلةِ القدرِ عندَ الحَجرِ الأسوَدِ” ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة. وخير ساحة وميدان للعمل اليوم ميدان نصرة المستضعفين في غزة وإغاثتهم.
- الحركة للدين وإغاثة المستضعفين ثمرة للاعتكاف والخلوة: هناك ربط عجيب في عدد من النصوص النبوية الصحيحة بين الدمعة من خشية الله في الخلوات وبين الرباط والحراسة في سبيل الله وهذا يعني أن الاعتكاف والمناجاة ودموع الخلوات تنتج المرابطة والحركة والعمل وليس القعود والبقاء في دائرة العبادة فقط، قال صلى الله عليه وسلم: “ليس شيءٌ أحبَّ إلى اللهِ من قطرتَيْن وأثرَيْن: قطرةُ دموعٍ من خشيةِ اللهِ، وقطرةُ دمٍ تُهراقُ في سبيلِ اللهِ، وأمَّا الأثران فأثرٌ في سبيلِ اللهِ، وأثرٌ في فريضةٍ من فرائضِ اللهِ عزَّ وجلَّ” الترمذي بإسناد صحيح. وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يَلِجُ النارَ رجلٌ بكَى من خَشيَةِ اللهِ حتى يعودَ اللبَنُ في الضَّرْعِ، ولا يجتَمِعُ غُبَارٌ في سبيلِ اللهِ ودُخَانُ جهنَّمَ” الترمذي بسند حسن، وقوله: “عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ: عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ” الترمذي بسند حسن.
اللهم بلغنا ليلة القدر واكتبنا فيها من المقبولين الفائزين، واعف عنا وارحمنا وتب علينا وتقبل منا، وفرج عن أهلنا وإخواننا في غزة وسائر المظلومين، والحمد لله رب العالمين.