هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
مفهوم البركة في السياق الأوروبي
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. ألمانيا. بون 15 نوفمبر 2024م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فمن المفاهيم والمعاني المهمة جدا التي غابت وغُيبت وضعفت وتراجعت في هذا العالم المادي، خاصة في السياق الأوروبي وأشد خصوصية عند الأجيال الجديدة التي تشبعت بالثقافة المادية والتقييم المادي لكل شيء، مفهوم البركة، ويراد بها: النماء والكثرة والزيادة، ووجود الخير الإلهي في الأعمار والأرزاق والأولاد، فإذا وجدت البركة في المال كان قليله كثيرا تشتري بقليله ما لا يشترى بكثيره، وإذا وجدت في الأعمار أنجز فيها ما لا ينجز في غيرها.
كما قال ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: رُبَّ عُمُرٍ اتَّسعت آمادُه وقلَّتْ أمدادُه ورُبَّ عُمُرٍ قليلةٌ آمادُه كثيرةٌ أمدادُه.
وإذا وجدت في الأولاد كانوا مباركين مستقيمين بارين بآبائهم، وإذا وجدت في المؤسسات عظم أثرها وتأثيرها وظهر خيرها على الناس والمجتمع مهما قلت إمكاناتها.
وهذه البركة ظهرت في الحضارة التي شيَّدها النبي صلى الله عليه وسلم رغم العقبات والتحديات في ثلاث وعشرين سنة فقط. وإذا ارتفعت البركة ترى جهدا كبيرا ومؤسسات ضخمة لكن أثرها محدود معدود ولا يكاد يظهر حتى ينمحي.
وهذه البركة يراها أهل الله في غزة الأبية المحاصرة التي تتعرض للإبادة الجماعية والتطهير العرقي منذ أكثر من عام، كيف يعيش الناس في خيام لا تحميهم من البرد، وكيف يشعرون بالأمن في ظل تعدد أسباب الخوف، ومن أين يستمدون طاقة الصبر والثبات على شدة ما فقدوا ولاقوا في سبيل الله والمبدأ والقيمة، والأمة في مجموعها فقدت البركة وارتفعت منها بعد وقوع الخذلان لإخوانهم، والتقصير في حقهم، فيعيش العالم في أزمات اقتصادية وسياسية وارتفاع مستمر للتضخم، وفقدان لقيمة المال وخوف من المستقبل وحيرة في كيفية تأمين الحياة ومتطلباتها، والإعراض عن أوامر الله بخذلان المؤمنين وعدم إنكار المنكر وإقامة العدل سبب في تبدل النعم وتحولها .
قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ [سبأ: 15-17]
وتربية أولادنا والجيل الجديد من أولاد المسلمين على مفهوم البركة وأن القليل يمكن أن يكون أكثر وأكبر من الكثير مع البركة، وأن الكثير يمكن أن يزول في لحظة في ظل غياب البركة هو واحد من أكبر التحديات التربوية في عالمنا المعاصر. وهذه جملة من أهم ما تستجلب به البركات خاصة في السياق الأوروبي:
1- التحقق بتقوى الله والعمل الصالح:
قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2-3] أي: من باب لا يخطر له على بال! والتقوى هي:أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله، وقد قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت. قال: أنزلوها بالتقوى.
2- الصدق والوضوح في المعاملات المالية:
قال صلى الله عليه وسلم: “البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما” البخاري.
3- تجنب الحرام وما فيه شبهة وكثرة الإنفاق:
قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276] وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].
4- صلة الأرحام وحسن الخلق:
فعن أنسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» متفق عليه، والمقصود بقوله يُنسأ له في أثَرِه: أن تحصُلَ له البَرَكَةُ في عُمره، وأن يوفَّق للطاعات، ولعِمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وعن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «صِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ، يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الْأَعْمَارِ» (رواه أحمد بسند صحيح.
5- اغتنام الوقت وحسن إدارته:
دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأُمّتَه بالبَرَكَة في بكورها؛ لأن البكور مبادرةٌ إلى اغتنام الوقت، وتبكيرٌ إلى حسن استغلاله وتنظيمه؛ فعن صَخْر بن وَدَاعَة الغامِدِيِّ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشاً بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِراً، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ .أخرجه أبو داود، والترمذي.
اللهم بارك لأهل غزة في مدهم وصاعهم، وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وبارك لنا في أولادنا وأعمارنا وذرياتنا، وتوفنا وأنت راض عنا يا كريم، والحمد لله رب العالمين.