إرسل فتوى

معوقات الفاعلية والنهوض الحضاري

معوقات الفاعلية والنهوض الحضاري

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. ألمانيا . بون 22 نوفمبر 2024 م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن أحداث غزة التي نتابعها منذ أكثر من عام والتي تتعرض فيها لأقسى حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي وتهجير قسري تحت سمع العالم وبصره وصمته وسكونه للظلم والطغيان، وما يشبه الموت للأمة المسلمة العاجزة حتى عن مجرد الإنكار اللساني للظلم والقتل للأبرياء والمدنيين، وإن حالة الخذلان وما يشبه الموت والاستسلام للطغيان والاستكبار العالمي تطرح سؤالاً مركزيا مهما وهو:

كيف السبيل لتجاوز هذه الحالة ونقل الأمة من الخذلان والصمت إلى الحركية والفاعلية والنهوض الحضاري وتجاوز حالة التيه التي تحياها الأمة منذ عقود؟

وما هي معوقات وعقبات الحركية والفاعلية المانعة للأمة من القيام بدورها في إنكار المنكر ورفض الظلم؟

ولا يتوقف ضعف الفاعلية والإنجاز على مشهد الحرب في غزة فقط وإنما المسلمون في أوروبا وألمانيا مثلا هم كثرة هشة غير فاعلة أو مؤثرة بالقدر الذي يتناسب مع حالها وقدرها.

ولعل أفضل السور القرآنية التي تجيبنا عن هذا السؤال هي سورة النمل، حيث ضرب الله لنا مثلا بحشرة ضعيفة صغيرة لكنها مضرب المثل في الحركية والفاعلية فرغم ضعفها وصغر حجمها إلا أنها قادرة على حمل ما يساوي وزنها أربعين ضعفا، وإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه، حركته بأرجلها الخلفية ورفعته بذراعيها، وذلك لنتعلم منها الفاعلية والإنجاز والعمل الجماعي والحركية الدائمة وعدم الاستسلام للمحبطات والعوامل الخارجية.

ومن أهم معوقات الفاعلية والحركية في مواجهة الظلم والطغيان والإقلاع الحضاري من خلال سورة النمل ما يلي:

1- الظلم والعلو والاستكبار:

تحدثت سورة النمل عن أن فرعون وقومه عندما جاءهم موسى بآيات الله مبصرة ﴿‌وَجَحَدُوا ‌بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾ [النمل: 14]  فالظلم والاستكبار هو الذي دفعهم للكفر بآيات الله رغم وضوحها؛ ولذلك فإن سليمان عليه السلام عندما أرسل رسالته إلى ملكة سبأ قدم عدم العلو والاستكبار على دعوتهم للإسلام، لأن العلو والاستكبار سيحجبهم عن أنوار وهدايات الوحي فقال: ﴿أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 31]، ومن هنا فعلينا أن نتطهر من الظلم الفردي في بيوتنا ولزوجاتنا وأولادنا وجيراننا وأن نتخلى عن العلو والاستكبار على الخلق، وأن نزكي أنفسنا ونطهرها من هذه الأمراض والعلل قبل أن نتجه لمنع وجودها في هذا العالم المستكبر الراعي للظلم والقتل للأبرياء ومن لا ذنب لهم، فكم من رافض للظلم والاستكبار الواقع على أهل غزة لكنه يمارسه على أولاده وأهل بيته ومن يلي أمرهم.

2- الذنوب والمعاصي:

الذنوب والمعاصي إما أن تكون في حق الله أو في حق الخلق، فإن كانت في حق الله سلبت العبد نعمة التوفيق الإلهي وهذا يقلل أو يمنع الفاعلية والإنجاز، وإن كانت في حق الخلق صارت أخطر على الفاعلية والإنجاز بل ربما عجلت بهدم البناء كله، سورة النمل تلفت النظر إلى أثر الذنب في صناعة الخوف في قلب المذنب؛ فإن موسى عليه السلام كان قد تدخل في صباه لنصرة فتى من قومه وكزه فقتله بغير قصد منه، فظل خائفا بسبب هذا الذنب وعندما أمره الله أن يلقي عصاه رآها حية تهتز كأنها جان فخاف وولى مدبرا ولم يعقب رغم أنه في حضرة المولى الجليل سبحانه وتعالى فناداه الله عز وجل: ﴿يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ‌ظَلَمَ ‌ثُمَّ ‌بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)﴾ [النمل: 10-11]، والخلاص من آثار الذنوب يكون بالتوبة الصادقة والامتناع الفوري عنها، وأمتنا بحاجة إلى توبة جماعية نصوح إذا أرادت أن تقلع حضاريا وتستعيد فاعليتها وتأثيرها من جديد.

3- الجهل وقلة الوعي:

من أكبر عوائق الفاعلية الحضارية والإنجاز الواقعي الجهل وقلة الوعي؛ لأن عدم الوعي ينتج الهزيمة النفسية والاستجابة للإحباطات والمثبطات، وفي سورة النمل يخاطب نبي الله لوط عليه السلام قومه مستنكرا فعلهم في إتيان الرجال شهوة من دون النساء ورده إلى جهلهم به وعدم وعيهم بعواقبه ومآلاته فيقول تعالى: ﴿أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ ‌تَجْهَلُونَ﴾ [النمل: 55] وفي الحديث عن آيات الله ونعمه الكونية يقول تعالى: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النمل: 61] ويرد القرآن تكذيب الكفار بالآخرة إلى الجهل فيقول تعالى: ﴿بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: 66]، لذلك فإن من أهم واجبات المرحلة رفع نسبة الوعي بالواقع والتاريخ والسنن وتجاوز مساحات الجهل في الدوائر المختلفة التي تعيق الفاعلية الحضارية والإنجاز وتجاوز الانكسار واليأس الذي أصاب الناس.

4- الشيطان وغواياته:

في حديث الهدهد عن قوم سبأ إشارة إلى دور الشيطان في صدهم عن طريق الهداية قال تعالى: ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا ‌يَسْجُدُونَ ‌لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 24]، فمن أهداف الشيطان في غواية الإنسان محو العمل ومنعه فإن لم ينجح ليس أقل من تقليله وتقزيمه، فالشيطان عدو للفاعلية والإنجاز الحضاري .

اللهم فرج الهم والكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة ولبنان والسودان وكل مكان، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وتوفنا وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين.    

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80