إرسل فتوى

لماذا نفتُر عن الطاعة بعد السبق فيها؟

لماذا نفتُر عن الطاعة بعد السبق فيها؟

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين بون. ألمانيا. 4 إبريل 2025م

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فمن الظواهر التي شغلت الدعاة ظاهرة فتور الناس عن المساجد والطاعات بعد رمضان، وقد تتابعت الخطب والدروس منذ سنين تحث الناس وتشحذ هممهم ليستمروا في نشاطهم العبادي بعد رمضان، ولم تفلح تلك المواعظ ترغيبا وترهيبا في تغيير واقع الناس ولو بالتراجع أو الفتور التدريجي لكنه فتور يقع في اليوم الأول بعد العيد، بل الأخطر منه أنه يقع حتى في رمضان فنلحظ نشاطا مكثفا وحضورا كبيرا في الأيام الخمسة الأولى من رمضان يعقبه فتور طوال الشهر ثم عودة نسبية للنشاط العبادي في العشر الأواخر يعقبها فتور بعد ليلة السابع والعشرين من رمضان، ومن المفارقات العجيبة أن نرى صبر وثبات وصمود أهل غزة أمام حرب الإبادة الجماعية التي يتعرضون لها رغم عظم الثمن الذي يدفعونه على مدار 18 شهرا، بينما لا يصبر أهل الرخاء والسعة على العبادة في رمضان أو بعده ولو لأيام أو لأشهر؟!!

وهو أمر يستوجب التوقف والتأمل ومحاولة البحث عن الأسباب التي تؤدي إلى هذه الحالة المخالفة للشرع والعقل؛ فشرعا الحسنة تبحث عن أختها وعلامة قبول الحسنة الاستقامة والحسنة بعدها قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17] ، وعقلا لا يوجد تاجر بالمنطق الدنيوي يوقف تجارته أو يقللها بعد موسم تجاري ربح فيه!! فكيف بتجارة مع الله أخفى عنك فيها هل قبلت فجزيت عليها أم لا؟ ويمكن إيجاز أسباب الفتور عن الطاعة بعد السبق فيها فيما يلي:

  1. التمركز حول عبادات الجوارح والغفلة عن القلوب: لا شك أن عبادات الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وحج هي أركان الإسلام الظاهرة وهي مهمة، ولكن عبادات القلوب أشد أهمية وخطراً منها؛ فالقلب هو ملك الأعضاء وبقدر حضور القلب وسلامته من العلل يسهل على الجوارح عمل العبادات، بل إن القلب قد يؤدي إلى إحباط عمل الجوارح أو تقليل الأجر عليها كغياب الإخلاص وهو عمل قلبي عن بناء مسجد مثلاً وهو عمل عظيم من أعمال الجوارح، وتأمل مثلا موقف سيدنا ضمرة بن جندب الذي كان مسنا مريضا ومنعه أولاده من الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليه يقول: أنا ضعيف البدن ولكني قوي الإيمان وأريد الهجرة وفيه نزل قوله تعالى ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100]، وكثيراً ما نرى معاقا مبتور القدم يمشي ويتعنى في الذهاب لصلاة الجماعة والقيام طويلا فيها بينما نرى شابا مفتول العضلات لا يقوى على ركعتين خلف نفس الإمام، فلا مقارنة في القوة البدنية هنا وإنما في الحضور القلبي، فقوة الإيمان في القلب هي التي تعين الجوارح على الحركة والعمل، ونحن في رمضان نفعل العكس فالنتيجة سرعة فتور الجوارح؛ لأن انتفاع القلب بالعبادة محدود، وإذا أصلحنا القلب استقامت الجوارح.     
  2. المثالية وعدم الواقعية في قراءة الظاهرة: فمن المثالية مخاطبة الناس بضرورة الاستمرار على الطاعة بعد رمضان كما كانوا في رمضان، وهذا خطأ بل من أسباب التراجع والفتور الكبير بعد رمضان؛ لأن رمضان له خصوصية: من خصوصية مضاعفة الأجر إلى خصوصية الجماعية، إلى خصوصية قلة أيامه وأنه أياما معدودات بخلاف طوال السنة أو العمر، فمن العسير مخاطبة عموم الناس أن يكونوا في ختامهم للقرآن وقيامهم لليل كما كانوا في رمضان، وإنما يطلب منهم حد أدنى من العبادة لا ينقصون عنه وهو عدم التقصير في الفرائض والإتيان بشىء من النوافل مثلاً وأن لا يتراجع العبد في علاقته مع ربه وأن يكون دائما في صعود وترقي. ومن إشكاليات خطابنا الديني في رمضان أيضا تحفيز الناس على العبادة بقصر الحافز على الدرجات المادية والحسنات اللحظية وهذا الخطاب رغم أنه سريع الأثر في الناس إلا أنه أنتج ثقافة الاستثمار والاقتناص في التعامل مع مواسم الطاعات والقربات كرمضان والعشر الأواخر منه، ورأينا الناس يتركون الشهر كاملا ويحضرون ليلة 27 فقط، أو يسابقون على عمرة في رمضان وإن صاحبها أي خلل سلوكي أو أخلاقي آخر لا يسعى صاحبه إلى تغييره بعد العمرة أو الطاعة، والتوازن بين الترغيب بالأجور وبين إخفاء القبول لتستمر العبادة هو المطلوب.
  3. الغفلة عن طبيعة النفس ومداخل الشيطان: فطبيعة النفس أنها تميل إلى السكون والراحة والكسل عن العبادة وتحتاج إلى مراحل طويلة من المجاهدة والصبر حتى يصل العبد معها إلى التلذذ بالعبادة ولا يجد مقاومة من نفسه تجاهها؛ هذا سيدنا ثابت البناني يقول: “جاهدت نفسي بالصلاة عشرين سنة ثم تلذذت بها عشرين سنة ووالله إني لأدخل في الصلاة وأنا أحمل هم خروجي منها” وقد عشق ثابت الصلاة بعد طول صبر ومجاهدة حتى أنه كان يدعو ربه قائلاً:” اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصلاة فِي قبره، فأعطني الصلاة فِي قبري، ويُقال: إن هذه الدعوة استجيبت لَهُ، وأنه رؤي بعد موته يصلي فِي قبره” وهذا أحد أئمة السلف يقول: سقت نفسي إلى الله وهي تبكي، وما زلت أسوقها وأسوقها وأسوقها، حتى انساقت إلى الله وهي تضحك! وما ضحكت تلذذا بالعبادة إلا بعد طول مجاهدة وصبر وليس فقط العبادة في رمضان، وأيضا معرفة مداخل الشيطان في إغواء الإنسان وصده عن العبادة، وأن الشيطان يصير أشد عداوة وعنادا للمسلم بعد رمضان لأنه انتصر عليه في جولة مهمة وعقَّد عليه مهمة الغواية، والنفس والشيطان لا يحتاجان إلى أوقات طويلة دون أوراد وعبادة ليقع التسلل والبعد عن طريق الاستقامة يكفي الغفلة ولو ليوم أو أيام، وعادة ما تكون البداية بترك الورد القرآني أيام العيد.
  4. الغفلة عن المعينات على الطاعات في كل الأوقات: كالدعاء قال تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8] ، ووصية النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا معاذ رضي الله عنه:”أوصيكَ يا معاذُ لا تدَعنَّ في دُبُرَ كلِّ صلاةٍ تقولُ: اللَّهمَّ أعنِّي على ذِكْرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسنِ عبادتِكَ” أبو داوود بإسناد حسن. ومن المعينات على الاستمرار على الطاعة تذكر بغتة الموت وأمنية الإنسان عند الموت وهي أن يمنح فرصة ليعمل فيها صالحا قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99-100]، ومن المعينات الصحبة الصالحة وتجنب قرناء السوء قال صلى الله عليه وسلم:” المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ” أبو داوود والترمذي بإسناد صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم:” خياركم الذين إذا رءوا ذكر الله عز وجل” ابن ماجة. صحيح.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وفرج الكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80