هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
كيف نَستعيدُ قِيَمَنا المُنقَرِضة؟
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 15 أغسطس 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فلا زالت أحداث غزة تكشف سوأة العالم الإسلامي والغربي على حد سواء وتظهر تناقضاته، فمشهد قتل الصحفيين عمدا في غزة قبل أيام استدعى مشهد تظاهرة رؤساء وزعماء العالم في باريس بعد اغتيال الصحفيين المدان بالطبع في أحداث شارلي إبدو، بينما لم تُسمع أصوات الإدانات والاستنكار لقتل الصحفيين في غزة كإدانة قتل غيرهم مما يؤكد أن العالم يكيل بألف مكيال، وأن ورقة التوت التي كان الغرب يستتر بها قد سقطت، فالأنفس والدماء ليست متساوية كما يزعمون!!
قيمة العزة والإباء التي يغرسها الإسلام في المسلم:
وأحداث غزة لا تكشف تناقضات العالم الغربي وعجز الإسلامي فحسب، وإنما تكشف عن أزمة أخرى لا تقل خطراً عن سابقتها وهي تآكل وانقراض بعض القيم الإسلامية الخالصة بحق الأفراد وعلى مستوى مجموع الأمة؛ خذ مثلاً قيمة العزة والإباء التي يغرسها الإسلام في المسلم؛ فالقرآن الكريم لم يمدح الذلة إلا في موضعين:
الاول: ذلة المسلم على أخيه المسلم وهذه ذلة رحمة قال تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 54]
الثاني: ذل الإنسان لأبويه قال تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]، أما في غير ذلك فإن المسلم يجب أن يكون عزيزاً أبياً حراً لا يعرف الصغار أو الخنوع أو الذلة.
أين هذه العزة وهذا الإباء في أحداث غزة، حالة من الذل والهوان أصابت الأمة فخرست وعجزت عن إيقاف الحصار والتجويع والقيام بالحد الأدنى من صور النصرة للمستضعفين في غزة، ولا توجد فئة في الأمة اليوم جسَّدت قيمة العزة والإباء سوى أهل غزة، ولو أرادوا أن يأكلوا السمن والعسل وينعموا بطيبات الحياة وملذاتها لفعلوا بالتنازل عن أرضهم ومقدساتهم والاستجابة للتهجير والنزوح عن أوطانهم بعد استعمال كل أساليب التركيع والإذلال لهم، لكنهم فضلوا الموت في عز وكرامة على العيش في ذل ومهانة.
وديني دين عز لست أدري أذلةُ قومنا من أين جاؤوا
وقد قيل إن عجوزا وُجدت في بيتها على وشك هلكة لعوزها، فقيل لها: لِمَ لمْ تطلبي العون من أحد؟
فقالت: والله والله مرتين: لحفر بئرٍ بإبرتين، وكنس أرض الحجاز طُرا(بأجمعها) في يوم ريحٍ بريشتين، وحمل ثورين باليدين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا كأبيضين، ولا وقوفي على باب لئيم يضيع فيه ماء عيني.
يعني أنها تفعل كل هذه المستحيلات ولا تذل نفسها وتذهب ماء حيائها وعزتها لتطلب مساعدة من أحد رغم شدة حاجتها!!
إن القرآن الكريم يغرس في نفس النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قيمة العزة والإباء منذ لحظات الوحى وكلماته الأولى فيقول الله تعالى في أول سورة من سور القرآن الكريم: ﴿كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ [العلق: 19]، ثورة وعزة وإباء ورفض للمساومة على المبدأ أو التنازل عن الرسالة.
فأحداث غزة توجب علينا فتح باب التأمل والنظر في منظومة القيم التي انقرضت أو كادت، وكيف السبيل لاستعادتها؟
ومن أهم معالم قيمة الإباء والعزة في التصور الإسلامي ما يلي:
1- القرآن الكريم يغرس قيمة العزة في نفوس المؤمنين:
قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر: 10] فطلب العزة لا يكون إلا ممن هي بيده، والعزة لا تُنال إلا بطاعة الله تعالى، وقال تعالى: ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8]
قالها رأس النفاق عبدالله بن سلول، فقال الله: إن العزة لله ورسوله والمؤمنين مهما قل عددهم ومهما قوى عدوهم ومهما تعددت عليهم أسباب الضعف والانكسار فهم الأعزاء ما آمنوا بالله ورسوله واستمسكوا بطاعته، ونهانا الله تعالى عن الهوان والذلة ودعانا إلى العزة حتى في أوقات الضعف والهزيمة، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139] وقد جسَّد الصحابة والسلف هذه القيمة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد تنسب إلى غيره: “يعجبني من الرجل إذا سيم خطة خسف أي: إذلال أن يقول: لا بملء فيه”
وقال الشيخ محمَّدٌ الغزاليُّ: “أمَّا تهيُّبُ الموتِ وتحمُّلُ العارِ طَلَبًا للبقاءِ في الدُّنيا على أيَّةِ صورةٍ، فذلك حمقٌ؛ فإنَّ الفرارَ لا يُطيلُ أجَلًا، والإقدامَ لا يَنقُصُ عُمُرًا، كيف؟ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34]
إنَّ القضاءَ يصيبُ العزيزَ وله أجرُه، ويصيبُ الذَّليلَ وعليه وِزرُه؛ فكُنْ عزيزًا ما دام لن يُفلِتَ من محتومِ القضاءِ إنسانٌ”.
2- العزة والإباء في الدفاع عن الأرض والمال:
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأَيْتَ إنْ جاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أخْذَ مالِي؟ قالَ: فلا تُعْطِهِ مالَكَ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قاتَلَنِي؟ قالَ: قاتِلْهُ قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قالَ: فأنْتَ شَهِيدٌ، قالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ؟ قالَ: هو في النَّارِ.
النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يغرس في نفس المسلم قيمة العزة وكرامة النفس وعدم إعطاء الدنية أمام التهديد وتحقق الخطر على النفس، ويعد الموت دفاعا عن المال شهادة في سبيل الله، فكيف بالموت دفاعا عن شرف الأمة ومقدساتها؟!
ولهذا تأملوا موقف السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها والتي كانت في أمس الحاجة إلى ولدها بعد الهرم والضعف والوهن وفقد البصر، عندما حاصره الحجاج بن يوسف الثقفي بعدما ظل يحاربه طويلا وهو صامد، وحين قابلها في وداعهما الأخير سألته متعجبة “أو تستسلم؟! يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت على حق وتدعو إلى حق، فاصبر عليه، فقد قُتل أصحابك عليه، وإن كنت أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من معك، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن، والله لضربة سيف في عز خير من ضربة سوط في مذلة”.
قال عبد الله “أخاف يا أماه إن مت أن يمثلوا بجسدي”. فقالت أسماء كلمتها الخالدة “لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها”.
إنها تغرس في نفس ولدها قيمة الإباء والعزة وعدم إعطاء الدنية وإن مات على ذلك فقد مات عزيزاً شريفاً.
3- العزة والإباء في طلب الرزق:
وطلب الرزق والمال والوظيفة والترقية والصفقة اليوم من أوسع الدوائر التي يهين بعض الناس أنفسهم بسببها ظنا منهم أن هذا هو قمة الذكاء والاحتراف ولسان حال أحدهم: ومالي لا أذل نفسي لحظات ثم أكسب هذا المال أو المنصب!!
وما درى أنه بهذا يخسر نفسه ويخالف التوجيه النبوي في حديث أَبِي أمامة أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، قَالَ: إنّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعِي أنّ نَفْساً لنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَها وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَها، فاتّقُوا الله وأجْمِلُوا في الطَّلبِ، ولا يَحْمِلنَّ أحَدَكُمُ اسْتِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيَةِ الله، فإنّ الله تعالى لا يُنالُ ما عِنْدَهُ إلاّ بِطاعَتِهِ. رواه الطبراني، وأبو نعيم في حلية الأولياء بسند صحيح، وليس من الإجمال في الطلب أن تذل نفسك في طلب الرزق لغير الله، ومن الأحاديث التي تنهى المؤمن عن إذلال نفسه في طلب الرزق أو في غيره، قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ قَالُوا: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟ قَالَ: يَتَعَرَّضُ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ. رواه أحمد وابن ماجة، والترمذي وحسنه.
ندعو الله أن يخلقنا بأخلاق الإسلام، وأن يجعلنا أعزاء بالإسلام، وأن يعجل بتفريج الكرب وإيقاف الحرب على أهلنا وإخواننا في غزة، وأن يطعمهم من جوع وأن يؤمنهم من خوف، إنه سميع مجيب.