هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
محاضرتنا بعنوان :كيف نفهم القطيعة بين الآباء والأبناء؟
وكيف نتوقاها أو كيف نتجنب آثارها السلبية؟
وما ينبني على هذه القطيعة، أو ما يتسبب فيها؟
وجود هذه الأسرة الهشة، وإذا وجدت الأسرة الهشة، فمعناها أن المكون، أي مكون المسلم، لا شك أنه في خطر.
أبدأ بجملة من المقدمات قبل الإجابة على السؤال:
ما هي أسباب القطيعة بين الآباء والأبناء في الغرب؟
وهل هناك قطيعة حقًّا موجودة أم لا؟
لماذا هذا ملف بالغ الخطر وبالغ الأهمية؟ لأنه يتعلق بالمستقبل.
من يتحدث عن الأبناء أو يتحدث عن الشباب، فهو يتحدث عن المستقبل.
ومن يهمل ملف الشباب وملف الأبناء، يهمل الحديث عن المستقبل؛ ومعناه أنه لا مستقبل له، أو أن مستقبله يشوبه الكثير من الضبابية ومن الإشكالات.
بمعنى: أنه إذا افترضنا أن هناك قطيعة بين الآباء والأبناء في الجيل الثاني من أولاد المسلمين، فإن هذه القطيعة ستزداد في الجيل الثالث، وتُضاعف في الجيل الرابع، وتُضاعف أكثر وأكثر في الجيل الخامس، وهكذا.
ومن هنا وجب علينا الانتباه إلى كيفية التعامل معها من الآن، حتى نتجنب الوصول إلى مضاعفة هذا الخطر على الأجيال في المستقبل.
الجواب: نعم، هناك قطيعة، وهناك مسافة كبيرة بين الآباء والأبناء في هذه المجتمعات.
ومن مظاهر هذا الانقطاع أو هذه القطيعة: انقطاع الحوار أو التواصل أو التفاهم بين الآباء والأمهات وبين الأبناء والأولاد؛ سواء انقطاع كلي حقيقي (يعني لا يوجد حوار)، فالأب يُعتبر “بنكًا”، يأخذ منه النفقات والأموال، وتُعتبر الأم مكانًا يأوي إليه إذا شاء، ويأخذ منها أكلًا طيبًا.
كما حدثتني إحدى الأمهات، عندها ابن متميز في دراسته وتعليمه، وملتزم دينيًّا، من أبناء المسجد، يصلي في الصف الأول.
عندما زرتُ هذه الأسرة، الأب والأم جلسا معي، فقلت لهما: أين فلان؟ أين الابن الأكبر؟
قالا: لا، استأجر شقة هنا في نفس المدينة.
يعني: لو كانت دراسته مثلًا في مدينة بعيدة، لتفهمنا الأمر.
قالا: استأجر شقة في هذه المدينة، يسكن فيها وحده، وفضّل العيش وحده على أن يعيش معنا.
فقلت: طيب، هل يزوركم؟
قالا: يأتي على مسافات متباعدة.
وأمه تمزح، تقول: إذا أراد أن يأكل أكلًا جيدًا يأتي إلى البيت ثم يعود، أو إذا تعثر في غسل ملابسه، يأتي لأقوم له بهذه المهمة.
هكذا أصبحت وظيفة الأسرة، ووظيفة الأب والأم عند هذا الابن، وهو يعيش معهم في ذات المدينة، وفي نفس المدينة.
أو سواء كان الابن لم ينقطع عن الأسرة أو العائلة، فهو يعيش معهم في نفس المدينة، ولكنه لا يتواصل مع أبيه أو أمه.
الآية التي تشير إلى أهمية صلة الرحم:﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ [سورة محمد، الآية 22.]
بعض الأبناء والشباب، لما أجلس معهم وأتحدث إليهم، يشكون إليّ من أنهم لا يستمتعون بالحوار مع آبائهم وأمهاتهم، يقول لي: “إن أبي لا يفهمني، إن أمي لا تفهمني، لا أستطيع أن أواصل الحديث معها”.
بعض الأبناء يقولون لي: “نحن نمثّل على آبائنا وأمهاتنا، يعني: أنا أعرف أن أبي يرضى هذا الموقف، هذا السلوك، هذه العبارات، فأنا أُرضيه، أُسمعه إياها، لكنني في عالم آخر، مختلف تمامًا عن العالم الذي يتمناه ويتغياه ويريده أبي”.
فهذا شكل من أشكال الانقطاع أيضًا، حتى لو كان الابن موجودًا مع أبيه وأمه، لكنه في الحقيقة منقطع.
قال الله تعالى:﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [سورة الإسراء، الآية 23.]
كيف أن القرآن الكريم يعطف الإحسان إلى الوالدين بعد توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبودية؟
وعلماء اللغة يتحدثون عن هذه الباء أنها باء المصاحبة أو المعية، بمعنى أن البر والإحسان إلى الوالدين لا بد أن يكون مباشرًا بلا واسطة.
يعني: بعض الإخوة يقول: “والله أنا أقوم بدفع الأموال التي يحتاج إليها أبي وأمي، لا أُقصّر، الحمد لله، في هذا الأمر، هل قمتُ بواجبي؟ أنا استأجرتُ خادمة لأمي في البيت، تقوم على رعايتها بأتم صورة”.
ولكنه بعيد عنها، يعني: هناك فرق بين المكره على البعد عن أبويه، وبين المختار في أن يكون قريبًا، أن يكون بارًّا مُحسنًا، ومع ذلك يفضل أن يريح نفسه وينفق فقط.
هذا لم يقم بصورة البر المثلى التي أرشدنا إليها ودلنا عليها القرآن الكريم، فتجد أن صورة البر وصورة الصلة من الأبناء للآباء والأمهات ضعيفة جدًا أو متراجعة.
وإن أردنا أن نلتزم الإنصاف قليلًا، فإن هذا الملف، وهو ملف ظهور التواصل والبر والإحسان من الأبناء للآباء والأمهات، من أهم ملفات الإثراء الحضاري والقيم التي يمكن أن نُثري بها هذا المجتمع، ويمكن أن نبلغ بها رسالة الإسلام لهذه المجتمعات.
أذكر أن أحد الإخوة الفضلاء جدًا، من قدماء المهاجرين، ومن أفاضل وخيار الدعاة في ألمانيا، حدثني أن امرأة ألمانية غير مسلمة جاءت بابنها إلى المسجد، وقالت له: “أريد أن يتعلم ويتربى ابني في هذا المسجد”.
قال لها: “لِم؟ من المؤكد ليس عندنا مانع، لكن هل تعلمين أن هذا مسجد للمسلمين؟ وأننا جماعة مسلمة؟ ونعلمه في المسجد القرآن والسنة وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذا؟ وأنتِ امرأة غير مسلمة، ربما هذا الشيء لا تفهمينه؟”
قالت: “لهذا جئت، أنا جئت خصيصًا لهذا”.
قال لها: “طيب، إذا كنتِ غير مسلمة، وتأتين بولدك إلى المسجد ليتعلم القرآن ويتربى عليه في المسجد، ما الدافع لهذا الأمر؟”
قالت له: “عندي جارة مسلمة، محجبة، لها ولد يُحسن إليها على أتم وأكمل صورة، أنا منبهرة بنموذج هذا الولد وصورة إحسانه وتعاملِه مع أمه، تمنيت أن يكون ولدي مثل هذا الولد”.
ذهبتُ إلى هذه المرأة، قلتُ لها: ما هو المنهاج التربوي الذي تعتمدينه ليكون ابنك بهذا المستوى؟
قالت لي: لا شيء، أنا لم أعلّمه، المسجد هو الذي علّمه.
قلتُ لها: ما هو هذا المسجد؟
قالت: أنا مسلمة، وعندنا المسجد يقوم بدور في التربية والتوجيه للأولاد، فأنا أدفع به كل أسبوع، يوم السبت والأحد.
قالت لها: دليني على هذا المسجد.
ودفعت بولدها ليتربى ويتعلم في المسجد، وهو غير مسلم. لماذا؟
لأن هذه القيمة ظهرت عند هذا الولد.
في تقديري، لسببين أو لأحد سببين.
هناك أسباب فرعية ممكنة، لكن أهم سببين – في تقديري – هما:
هناك فراغات اجتماعية هائلة في المجتمع، يعرفها تمامًا من يعيش في هذه المجتمعات المادية.
وفد ألماني يسألون: ماذا تعملون في المسجد؟
أذكر أنه مرة جاءنا وفد في يوم “الباب المفتوح”،
وهو يوم في السنة تفتح المساجد فيه أبوابها للألمان، يأتون إلى المساجد، ويسألون عن الإسلام، ويتعرفون عليه.
فجاءنا وفد من الألمان، أغلبهم من كبار السن، رجال ونساء، يعني: سبعون سنة فما فوق.
بدأوا يسألون عن الإسلام وعن المسجد.
قالوا: “ماذا تعملون في المسجد؟”
قلتُ لهم: “نُصلّي في المسجد لله سبحانه وتعالى.”
قالوا: “كم صلاة؟”
قلتُ: “خمس صلوات.”
قالوا: “خمس صلوات؟! تأتون في اليوم خمس مرات؟! هذا تضييع للوقت وبذل للجهد والمال، يعني: لماذا خمس مرات في اليوم تأتون؟”
قلتُ لهم: “إن المكاسب التي نحققها وتعود إلينا بصلاة الجماعة في المسجد، تستحق أن نبذل لأجلها كل غالٍ ونفيس.”
وفتحتُ قوسًا على المقصد الاجتماعي لصلاة الجماعة، فقلتُ لهم:
“نحن في المسجد نتعارف ونتواصل ونتآخى.
انظروا إلى هؤلاء الناس في مؤخرة المسجد: كل واحد منهم من بلد ومن جنسية.
انظروا إلى هذا الرجل المسن، الذي يأتي على عربة من بيته.
هذا الرجل ماتت زوجته، ويسكن أولاده بعيدًا عن المسجد، لكن كل الشباب هنا في المسجد هم أولاده.
لو غاب فريضة واحدة، يذهبون إليه، يتفقدونه، ويقضون له أغراضه وحوائجه وتسوقه.”
والله، بدأوا جميعًا يبكون، وقالت لي إحداهن:“أنا لو وجدت من يفعل معي هذا الأمر، أدفع له مالًا، فقط ليسأل عني. أدفع له.”
قصة مسلم مع جارته الألمانية:
جاءني أحد الطلاب مرة يسألني سؤالًا، هو يستفتي من الناحية الشرعية، لكنني أتأمل في الخلفية الكاملة وراء السؤال.
قال لي: “إن جارتي الألمانية المُسنّة، التي تعيش وحدها، طلبت مني أن أجلس معها كل يوم ساعة، أتحدث معها، أسأل عنها، أتفقدها، وتدفع لي مقابل هذه الساعة مبلغًا ماليًا، كأني أعمل، يعني: خمسون يورو عن الساعة، أو لا أذكر المبلغ بالضبط.
قالت له: حتى لو أردتَ زيادة، ما عندي مشكلة، بس كل يوم تكون عندي ساعة، تجلس معي وتؤنسني بالحوار والحديث فقط.
لا أريد منك شيئًا آخر.”
هو يسألني طبعًا:“هل يجوز لي أن أجلس معها وحدي، رغم أنها امرأة مسنّة؟ وهل تُعتبر هذه خلوة أم لا؟“
لكن البعد الكامل وراء السؤال هو حالة الجوع العاطفي التي يعيش فيها المجتمع.
طيب، لو تحوّلنا نحن كجماعة مسلمة، كمكون مسلم في هذا المجتمع، إلى جماعة تحمل نفس قيم المجتمع الغربي: متقاطعة، متدابرة، المسجد لا يؤدي دوره ووظيفته الاجتماعية…
كم مرة استُفتيت؟ لا أُحصي… استُفتيت من الإمام، يقول لي: “عندنا جثة لمسلم تُوفي، جثته تهرأت!! كيف نغسله؟ وكيف نكفنه حتى يُدفن؟!!
ما السبب؟ السبب: أنه مات في بيته ، ولم يسمع به أحد، لم يسأل عنه أحد، حتى شمّ الجيران رائحة جسده المتعفنة.
أبلغوا الشرطة، فجاءت الشرطة وكسرت الباب، فعرفوا أنه مات، ويريدون أن يدفنوه.
يأتي هنا السؤال، وأنا أيضًا أتوقف عنده:هل يمكن أن يقع هذا أو يحدث هذا مع مسلم يعرف المسجد، يتردد على صلاة الجماعة، يعرف الجماعة المسلمة؟إذا غاب عن صلاة الجماعة، وغاب عن المسجد، تفقدته هذه الجماعة.
فنحن، عندما نغفل، ونسكت، ونتجاوز، ونتجاهل هذه الإشكالية، نحن لا نُضيع فقط قيمة من أهم القيم في الإسلام،
بل نُضيع أيضًا فرصة كبرى للتعريف بالإسلام، وإظهار أننا كجماعة مسلمة نحمل خيرًا لهذه المجتمعات،
عليها أن تَقتبس منا، وعليها أن تتعلم منا.
من أهم المظاهر التي تؤلمني وتُوجعني أنا شخصيًا:
مظاهر القطيعة بين الأبناء والآباء، ودفع الأولاد بآبائهم وأمهاتهم إلى دور المسنين والعجزة؛ هذا شيء مُزعج في الحقيقة، لا يعكس أبدًا التصور الإسلامي،الذي يقوم على تمام البر والإحسان بلا واسطة.
أنت تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، أيها الابن، بالإحسان إلى أبيك، هذا باب من أبواب الجنة، وأبواب الخير، فتحه الله سبحانه وتعالى لك.
عندما تُغلقه على نفسك، بأن تدفع بأبيك إلى دار المسنين، ويأتي الابن يقول: “والله أنا أدفع له المبلغ، وعامل تأمين وتعاقد، ومش عارف إيه…”هذا كلام فارغ.
طبعًا، نستثني الحالات الاستثنائية الضرورية:شخص عنده ظرف طارئ خاص، أو الأب عنده حالة مرضية، يحتاج إلى رعاية خاصة…نعم، هناك حالات استثنائية، لا شك أن مثل هذه الدور أنسب وأليق،على أن يتم التفقد بصورة منتظمة وبصورة دائمة.
ولذلك، الناس أصحاب الدين والغيرة الذين أعرفهم، وأُكرهوا على الهجرة بعيدًا عن أوطانهم، ويعيشون في الغرب،
هؤلاء الناس الشيء الأكبر الذي يفتقدونه هو الحرمان من البر المباشر، والخدمة المباشرة لآبائهم وأمهاتهم.
وثِقوا تمامًا: بقدر ما تُحسن إلى أبيك وأمك في الدنيا، ففضلًا عن الأجر الذي ينتظرك على هذا الإحسان والبر في الآخرة، سترَى أثر هذا الإحسان في أولادك وذريتك في الدنيا قبل الآخرة، وقد رأينا هذا كثيرًا في الحقيقة.
نأتي بعد هذه المقدمات إلى الإجابة على السؤال:
ما هي الأسباب التي تدفع أو توصلنا إلى هذه النتيجة، وهذه القطيعة بين الأبناء وبين الآباء والأمهات؟
أنا في محاضرة سابقة، تحدثت عن تفاعلات المجتمع وتأثيرات المكان على الإنسان.
فالذي يعيش في مكان، لابد أن يتأثر به، ولابد أن يتفاعل معه.
كما قال ابن خلدون:“الإنسان ابن بيئته وزمانه ومكانه.”
وابن خلدون من أكثر العلماء الذين اهتموا واعتنوا بتفاعلات وتأثيرات المكان والبيئة على الإنسان،حتى إنه قال: “إن الطقس البارد يؤثر على الإنسان أكثر من الطقس الحار”.
فالطقس الحار يُنتج شخصية معيّنة، والطقس البارد يُنتج شخصية مختلفة:
طبعًا، هو قال هذا الكلام قديمًا،واليوم، الدول التي فيها طقس مختلف عن النمط الطبيعي – مثل السويد مثلاً – ترتفع فيها وتزيد نسبة الانتحار جدًا.
الدراسات تقول: إن أحد أهم الأسباب التي تؤدي إلى هذا هو الطقس؛ أنهم يقضون مدة طويلة جدًا لا يرون الشمس،
وأغلب الوقت يعيشونه في ظلام، لا يرون الشمس والضوء والحياة الطبيعية.
النبي ﷺ قال في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم:«الفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل، والسكينة في أهل الغنم».
والإمام ابن تيمية علّق على هذا الحديث، قائلًا: “الآدمي إذا عاشر نوعًا من الحيوان، اكتسب من بعض أخلاقه،ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم.”
يعني المقصود هنا: إذا كان الإنسان إذا خالط الحيوانات فترة طويلة يكتسب من صفاتها وطبائعها،وإذا اعتاد أكل نوع معين من الأكل بصورة دائمة يتأثر بتأثيرات هذا النوع من الأكل،فكيف إذا عاش في وسط بيئة وأقوام لهم ثقافة وعادات وتقاليد؟!
ولعل بعضنا لا يشعر بالتغيرات التي تطرأ عليه؛لأنه في قلب الحدث؛ من الممكن أن تجد أشياء بسيطة جدًا تنتقل إليك تلقائيًا.
يعني: الذي اعتاد النظام، واعتاد الحياة المنظمة، والالتزام بالاشارات المرورية، وهذه الأشياء، عندما يعود إلى بلده – إذا كان فيه فوضى مرورية – يبدأ يتعصب، ويرتبك، ويغضب،ويقول: “كيف أنا ملتزم والآخرون لا يلتزمون؟!”
يشعر أنه غريب،بينما هو كان مثلهم قبل أن يترك هذه البيئة.
طيب، ما الذي جعله يتغير؟وجوده في بيئة مختلفة، لفترة معينة من الوقت والزمن.
فلا تستهِن أبدًا بتأثيرات البيئة.
ابنك يدرس، يتعلم، يتواجد في هذا المجتمع فكرًا وثقافة وعادة،أكثر من الفترة والوقت والزمن الذي يقضيه معك ومع أمه في البيت؛فطبيعي جدًا أنه يتأثر بهذا الخلَل وبتلك الصفات.
على أن بعض مظاهر الحياة المادية والاجتماعية في المجتمعات الغربية تبدو مُبهرة،وتبدو مقنعة أيضًا.
الشاب هذا الذي حدثتكم عنه في أول الكلام،تحدثت معه، قلت له: “أنت إزاي تترك أسرتك وعائلتك، وتذهب تعيش في مكان آخر؟”
يُعدّد لي الميزات والمزايا والمحاسن التي ستعود إليه باستقلاليته وبعده عن أبيه وأمه، وأنه يريد أن يعتمد على نفسه، ويريد أن يكون شخصية قوية، ولا يريد أن يتأثر بأبيه وأمه،مع أنهم هم الذين يُنفقون عليه! طيب، من أين تريد أن تستقل؟
إذن فلتستقل ماليًا!إذا أردت الاستقلال الحقيقي، فابدأ من هنا.
فأول سبب يؤدي إلى هذه القطيعة: التأثر بثقافة المجتمع، التي يمكن أن لا يرى فيها الابن أمه أو أباه لسنوات طويلة جدًا.
قصة مسلم مع عجوزمريضة بألمانيا :
عندنا واقعة في ألمانيا، صاحب القصة هو الذي حدثني بها:امرأة عندها بنت، ابنتها الوحيدة، لا تسأل عنها ولا تتفقدها،لا في صحة، ولا في مرض، لا في المستشفى، ولا خارج المستشفى.
وهذا الأخ – لما رأى حالها – اعتبر هذه المرأة، بما أنها وحيدة ولا يسأل عنها أحد، مثل أمه؛ يعني: يُحسن إليها، وإذا طبخوا أكلاً، يذهب به، ويُرسل أولاده وبناته معها، يسألون عليها، يتفقدونها، وإذا ذهبت إلى المشفى، كان يذهب إليها كل يوم.
وهو كان يفعل هذا الأمر – كما قال لي – بتلقائية شديدة؛ قال: “جارتي، امرأة مسنّة، وليس لها عائل أو أحد، فقلت: أتفقدها يعني.”ولكن مع كل الأسف، لم يحدّثها يومًا عن الإسلام،ولا قال لها: “إنني أحسن إليك انطلاقًا من أخلاق الإسلام.” ما قال لها هذا الكلام أبدًا.
المرأة ماتت، وفوجئ – بعد موتها بأيام – أن الشرطة جاءت إليه،وقالوا له: “نريد أن نسألك بعض الأسئلة.
هل كان بينك وبين هذه المرأة (جارتك) شجار أو عراك أو أي شيء؟” قال لهم: “لا، بالعكس، كانت واحدة من العائلة.
وأنا حزنتُ جدًا، وأولادي حزنوا كذلك، وكذا وكذا…”
المهم: الشرطة كانت تُريد أن تتأكد من بطلان دعوى ابنتها؛ ماذا فعلت المرأة؟
باعت كامل تركتها – حوالي سبع بنايات أو عمارات سكنية كاملة – لهذا الأخ،ونقلت ملكيتها له بطريقة قانونية لا تقبل التنازل أو التراجع،حتى لا تستطيع ابنتها أن تُراجع أو تُطالب بأي شيء قانوني.
فالشرطة أرادت أن تتأكد أنه لم يُكره هذه المرأة،أو يضغط عليها بأي شكل من الأشكال.
ففوجؤوا أنه أصلاً لا يعرف التفاصيل، فقالوا له: “إذًا أنت لك حق قانوني ومالي عندنا.”وسلّموه هذه البنايات السبع!
لدرجة أنه – من الطرائف المضحكة – قال لي:“أنا تركت شغلي وتفرغت لمتابعة هذه البنايات والتأجير وجمع الأجرة وهذه الأشياء…وصِرتُ من أُسر الأثرياء.”
طبعًا، أنا قلت له: “والله، شيء حسن،لكن لو أنك حدثتها مرة عن الإسلام،إذا كانت بهذه الطيبة وبهذا المستوى من الإحسان،
فلربما كانت دخلت في دين الله.”
السؤال: ما الذي يدفع هذه المرأة إلى هذا السلوك مع رجل لا تعرفه؟
لأنه أحسن إليها.بينما لم تُعطِ ابنتها حتى جزءًا من هذه التركة أو من هذه الأموال،قالت: “لا، لا تستحق؛ هذه لم تسأل عني أبدًا.
الذي سأل عني ووقف إلى جواري سنوات طويلة دون أن يطلب مني شيئًا، هو الذي يستحق، هو أهلٌ للأمر.”
التي أشير إليها كثيرًا، وأؤكد عليها في خطاباتي طويلًا، والناس، لما يسمعوني، يستغربون،يقولون لي: “لماذا تأكد كثيراعلى قضية التوطين؟”بمعنى أن المسلمين الذين يعيشون في الغرب يمكن تقسيمهم إلى ثلاث فئات:
الفئة المؤقتة هي التي تؤقت وجودها بفترة معينة،يقول لك: “أنا موجود فترة دراستي.”
أو: “أنا موجود لتحسين وضعي الاقتصادي، خمس سنوات فقط.”
أو: “أنا موجود حتى يبلغ ابني الأكبر عمره عشر سنوات، ثم لن أبقى في هذه البلاد، لأن فيها خطرًا على الدين.”
فهو مؤقت في وجوده.
وفئة أخرى أو شريحة أخرى: متأرجحة، هو لا يعرف، دائمًا يسأل طوال الوقت عن حكم بقائه وإقامته بالغرب.
أضرب المثال دائمًا بالأخ الفاضل، الذي في ألمانيا، يُصلي استخارة منذ أربعين سنة!
أربعون سنة يُصلي استخارة: “هل أبقى؟ هل أرجع؟”وكلما جاء شيخ أو داعية ضيف إلى المسجد، يسأله: “ما حكم الإقامة في بلاد الكفر؟” وأنت لك أربعون سنة!
ويسأله: “ما تأويل حديث النبي ﷺ:(أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر الكفر).”
فهذا التأرجح والتردد، هو أخطر على قضية القطيعة التي نتحدث عنها الآن.
لماذا أدعو إلى “التوطين”؟
لأن التوطين سيجعلك في مواجهة مباشرة مع التحديات.
ما دمت قلت: ” أنا بيتي هنا، وقبري هنا،”اشتريت البيت والقبر، واستوطنت المكان، ىفهذا الاستيطان للمكان لا يعني أنك تنقطع عن بلدك، ولا أن تنقطع عن وطنك، ولا أن ينتفي معه حكم الهجرة.
هذا لا يعني أن حكم الهجرة قد لُغي، لو – لا قدّر الله – حصل أي تطور، ورأيت خطرًا حقيقيًا على الدين بالنسبة لأولادك،
وهذا الخطر سيندفع بالهجرة وتغيير المكان، فحينها تهاجر.{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا…}[النساء: 97]
ما علاقة التوطين بهذه القطيعة؟
التأرجح أو التردد يوصل إلى القطيعة. كيف؟ الأب المتأرجح هذا، هو كاره للبلد، لم يُتقن لغتها، لم يفهم ثقافتها، لم يدخل في تفاصيل الواقع الموجود فيها،لا هو الذي حافظ على أن تبقى لغة ابنه العربية قوية،ولا هو يتقن لغة البلد بشكل صحيح،ولا يفهم البلد.
يعني: بعض الإخوة – الآباء المهاجرين إلى البلاد منذ 20 سنة أو 50 سنة –
إذا حدّثته عن أي حدث في البلد، لا يعرفه!!لا يعرف اسم رئيس الحكومة، أو رئيس الوزراء،ولا يعرف أي معلومات سياسية أو واقعية.
لكن افتح معه فقط ملف بلده الأصلي،يعطيك تفاصيل التفاصيل.
فهو يعيش هنا بجسده وبدنه،لكن بكليّته هناك.
ما المشكلة في هذا؟
المشكلة: أنه تنشأ عوالم منفصلة شيئًا فشيئًا،تبتعد المسافة بينه وبين أولاده، فنصل إلى هذه القطيعة الفكرية والثقافية واللغوية.
الابن يفكر بطريقة،إذا أراد أن يتزوج، يريد أن يتزوج بطريقته هو، الطريقة التي أمْلتها عليه ثقافة المجتمع وقيم المجتمع الذي عاش فيه؛ فأحب فتاة ليست من قبيلته،ولا من جنسية أبيه،فهو مصري، أحب بنت أفغانية، مثلًا…الأب يقول له: “كيف تتزوج هذه البنت؟!”
عندنا مثلًا حالة لشاب من الجيل الجديد، أحب فتاة صينية، مسلمة محجبة، ويريد أن يتزوجها.
أبوه يقول له: “كيف؟ إن تزوجتها، أنت لست ابني، ولا أعرفك!”
فقال له: “لن أتزوج إلا هذه.”
هذا يفكر بطريقة، وهذا يفكر بطريقة أخرى.
أنا جلست مع الشاب قبل أن يتزوج هذه الفتاة.
قلت له: “يا أخي، إذا لم تكن متعلقًا بها، فارضِ أباك، وأرحه في هذا.”
قال لي: “أبدًا، لن أتزوج إلا هذه. خلاص، هو لا يريد، هذا شأنه.”
فتاة تُحب شابًا من ذوي الاحتياجات، عنده إعاقة، لكنها تُحبه وتريد أن تتزوجه، والأب يرفض.
يقول: “كيف؟ ماذا أقول للناس؟ كيف أحضر العرس؟ كيف أظهر أمام الناس؟ كيف؟ كيف؟”
هنا تبدأ المسافة تتضاعف وتزيد بين الأبناء والآباء،بسبب ما قلته لكم.
لكن أنت إذا قررت التوطين من أول يوم وصلت فيه إلى البلد،فمعناه أنك ستبدأ بالدخول في منظومة البلد، وتفهمها، وتفهم كيفية التعامل معها،وتُدرك أن أولادك سيواجهون تحديات من أول يوم في البلد،فتبدأ في التفكير بكيفية التعامل مع هذه التحديات.
نتيجة عدم التوطين أو إشكالية التوطين،أن شريحة كبيرة جدًا من الجيل الأول تعيش في الغرب بثقافة وعقلية وعادات الشرق.
انتبهوا هنا: لا أتحدث عن العادات الحسنة،التي تُشكل معلمًا من معالم الهوية.
العادات أحد معالم الهوية، وهي مطلوبة جدًا، بشرط:
يعني، من العادات التي يُحافظ عليها بعض الناس من جنسيات مختلفة:الإنفاق المبالغ فيه في الأعراس والأفراح، والمهور.
يقول لك: “لا، مثل عادات بلدنا: 10,000 مقدم و100,000 مؤخر!”
طيب، الشاب عندما يأتي إليّ ويقول لي:“أنا أريد أن أتزوج من كتابية (غير مسلمة)”،
أقول له: “يا أخي، لماذا تتزوج كتابية غير مسلمة؟الرسول ﷺ قال: اختر من بين المسلمات،اختر من بين المسلمات صاحبات الدين.كيف تترك المسلمات هؤلاء كلهم، وتذهب؟”
فيقول لي: “ما هي المسلمة غالية قوي يا مولانا، غالية قوي! الكتابية غير مكلفة،ترضى بأقل حاجة. يورو مقدم ويورو مؤخر، ويتزوجها بسهولة، ولو أحببت حتى أن أنفصل عنها وأُطلقها، أُطلقها من غير مشاكل ولا وجع.
أما المسلمة، صعب الارتباط بها؛ ىمن أين لي بـ 10,000 مقدم؟وأعمل حسابي لو حصل حاجة…وهذا بندان فقط من البنود!
عندك بعد ذلك بنود أخرى كثيرة جدًا.”
هنا نحتاج أن نفرق بين:
هذه يجب أن نتمسك بها، ويجب أن نحافظ عليها.
لذلك:عدم التوطين أحد الأسباب التي تؤدي إلى القطيعة بين الآباء وبين الأبناء.
هذه إشكالية كبيرة، ليست فقط في الأسرة، بل حتى في المؤسسات.
يعني: انظر إلى أغلب المساجد في أوروبا….أغلب المساجد – مثلًا أتكلم عن النماذج عندنا في ألمانيا –
يديرها الجيل الأول، ويقوم على شأنها الجيل الأول، وطبعًا لأنهم هم الذين أسسوا، وهم الذين أنفقوا، وهذا شيء جيد.
لكن، أين الجيل الجديد من المسؤولية؟ وأين إسهامه في المسؤولية، ومن قيامه بدور؟
الجيل الجديد أَفهَم بالبلد، وأقدر على تمثيل المسلمين من الجيل الأول،لكن المشكلة: أنه ليس عنده الانتماء للمسجد، وليس عنده قوة أو ظهور الانتماء للفكرة الإسلامية نفسها؛ قد يكون عنده ضعف في هذه الأمور.
فالجيل الأول ليس عنده ثقة في الجيل الثاني وما بعده، والجيل الثاني يرى أن الجيل الأول “ليس عنده خبرة”،
“لا يفهم الحياة بشكل تام”، “لا يفهم اللغة”، “لا يفهم المجتمع”، فأصبح عندنا مسافة كبيرة جدًا بين الأجيال.
ومشكلة زماننا اليوم أن الزمن متسارع جدًا، اليوم، ممكن تلاقي أب عنده درجة الدكتوراه في تخصص معين، وعنده ابن أو بنت ست أو سبع سنوات،تعرف في الهاتف والتقنيات والأدوات هذه، أكثر من أبيها!لأن الزمن يتطور بسرعة شديدة جدًا ورهيبة.
كيف يمكن أن نردم هذه الفجوة؟
الأحزاب السياسية في أوروبا عندها دراسات،وعندها فرق ولجان عمل تشتغل على هذا الموضوع.
وهناك شركات تشتغل وتقدم نصائح وإرشادات؛لأنني أعتبر أن هذا من أخطر التحديات التي تواجه المؤسسات الإسلامية في أوروبا.
أذكر كلمة مؤلمة وموجعة للدكتور حسان حتحوت – رحمه الله –وكان رجلًا خبيرًا بالمجتمع الأمريكي، ويفهم الإسلام،وعنده بُعد استشرافي رائع جدًا.
فقال:“إذا لم يُحسن المسلمون اليوم في أمريكا تربية أولادهم على الدين،فسنكون أمام جيل جديد من أبناء المسلمين،سيبيعون المساجد لتتحول إلى كنائس،كما اشترى المسلمون اليوم الكنائس وحولوها إلى مساجد.”
هذا الأمر وارد جدًا أن يحصل، ويجب أن نحذر منه.
وكما يقول الحسن البصري:“لَأَن تصحب أقوامًا يُخوّفونك فتأمن، خير لك من أن تصحب أقوامًا يُؤمّنونك فتخاف.”
هبْ أن فيها مبالغة، لن تخسر شيئًا.
إذا اعتبرت أن فيها مبالغة، فليكن. لكن يجب أن نحذر.
فقضية التواصل بين الأجيال، في المؤسسات وفي المساجد، قضية خطيرة جدًا،ويجب أن ننتبه إليها، وننظر ونبحث:
كيف يمكن أن نتعاطى أو نتعامل معها؟ولا نترك الشباب يسيرون وحدهم،ويقولون لك: ” الإمام لا يفهمنا، ولا يتواصل معنا، ولا يفهم قضايانا وأسئلتنا.”
فيقوم هؤلاء الشباب بعمل نشاط وحدهم، ويأخذون المعلومات من الشبكات ومن الإنترنت بصورة مباشرة، فيحدث بعد ذلك إما تطرّف، أو خلل فكري في كل ميدان وفي كل اتجاه.
لن تنجح المؤسسات الإسلامية في الغرب في استيعاب الجيل الجديد، إلا بردم الفجوة والمسافة بينهم وبين الشباب،وبينهم وبين الجيل الجديد.
هذه الإشكالية ستنتقل من المؤسسات ومن المساجد إلى الأُسر وإلى البيوت، وستجد في النهاية مسافة كبيرة جدًا.
هذه المسافة تكبر بسبب:
فأنت لم تتربَّ ولم تنشأ على ثقافة وعادات وقيم هذا المجتمع،بينما ابنك تربّى على ثقافة وعادات وقيم هذا المجتمع.
هذه كلها أسباب تضاعف من المسافة بين الآباء والأمهات، وبين الأبناء.
هل يمكن ردم هذه الفجوة؟ هل يمكن معالجة هذا؟ طبعًا ممكن،لكن كلما بكرنا في المعالجة، سَهُل الأمر، وسهلت المهمة، وكلما تأخرنا، تعقّدت المهمة.
وأذكر في هذا النصيحة المتواترة عن الأستاذ مالك بن نبي – رحمه الله – المفكر الجزائري المعروف،حين جاءه رجل وطلب منه نصيحة في تربية ولده.
فقال له: “كم عمره؟”
قال: ” سبعة أيام.”
قال له: “لقد تأخرت كثيرًا!”
قال له: “كيف تأخرت؟!”
قال له: ” التربية تبدأ من لحظة الاستهلال، من الولادة.”
أول ما يُولد الطفل، ويخرج من رحم أمه، تبدأ التربية،تبدأ عملية التربية من اللحظة الأولى.”
أول ما يبكي، ستتعامل معه كيف؟هل تُسكته بالطعام فورًا، أم تُعلمه أن للطعام وقتًا؟طبعًا، هو أطال في هذا الموضوع وطرحه طرحًا فلسفيًا عميقًا،وقال: “إن الغرب يتعامل مع الطفل: اسكته فقط، ولا يهتم بالتنبيه الصحيح.”
ولذلك هذا الكلام يتوافق مع المنهاج النبوي في التربية.
نحن نبدأ التربية من:الأذان في أذن المولود،الإقامة،التحنيك،والإجراءات التي تبدأ من اللحظة الأولى.
بل، إن الإمام البخاري – رحمه الله – في صحيحه يتحدث عن أن التربية تبدأ من مرحلة ما قبل الولادة،بل من مرحلة ما قبل الزواج،في باب: اختيار الزوجة الصالحة.
عنده باب بعنوان:“باب طلب الولد لأجل الجهاد في سبيل الله”،أي أن قبل أن تتزوج، تنوي أن تتزوج لتُرزق بالولد الذي يُجاهد في سبيل الله، وطبعًا، “الجهاد في سبيل الله” ليس قاصرًا على القتال.
هذه من الإشكالات الشائعة في الغرب، كلما ذُكر الجهاد، قالوا: القتال!
لكن: الجهاد أعم من القتال.القتال صورة من صور الجهاد، لكن الجهاد يشمل:
قال تعالى:{فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان: 52] أي: جاهدهم بالقرآن.
فإشكالية الوصل الجيلي من أهم الإشكالات التي يجب أن نشتغل عليها،ونفكر فيها،ونبحث كيفية التعاطي والتعامل معها،في المؤسسات، وكذلك في الأسر، وفي البيوت.
نحن لو سلمنا أن هناك إشكالية، وأن هناك قطيعة بين الآباء والأبناء،وأن الأب يأتي يشتكي أن الولد – والله – شديد العقوق، شديد النفور،لا يُحسن إلى أبيه، لا يُحسن إلى أمه، وكذا وكذا إلى آخره…نعم، عندنا إشكالية.
كيف نعالجها؟ أي نعم نعالجها، لكن نقصر العلاج على الدائرة المادية والمعنوية فقط.
نسأل خبيرًا، نسأل مستشارًا، نحضر محاضرة مثل هذه…كل ذلك مطلوب طبعًا،لكن يغيب العلاج الرباني.
والعلاج الرباني، والمنهاج الرباني، – والله – من أهم العلاجات للإصلاح، وتقويم الأولاد.
ومن أهم المداخل الربانية لإصلاح أي خلل تربوي، أو عبادي، أو سلوكي، أو أخلاقي عند الأولاد:
الدعــــــــاء.
والدعاء، إذا ذكرته الآن، سيقول لك البعض:“آه، هذه دروشة! كلام صوفي! كلام عاطفي!” كلا والله.
يمكن أن أذكر لكم أمثلة قديمة، وأمثلة حديثة جديدة،على تأثير الدعاء في صلاح واستقامة الأولاد، وتقويمهم،وتغيير الابن العاق، وتحويله إلى ابن بار، مُحسن.
ما ذكره الإمام ابن الجوزي عن شاب اسمه: دينار العيّار.
دينار العيّار كان شابًا فاسقًا، مُسرفًا على نفسه،لم يترك كبيرة إلا اقترفها، ولا فريضة إلا تركها.
وكان عنده صحبة سوء سيئة جدًا، يسهر معهم كل يوم،يشرب الخمر، ويأتي الفواحش.
وكانت أمه امرأة صالحة، دائمة النصح والتذكير له، ودائمة الدعاء له. لم تتوقف أبدًا، ولم تفقد الأمل.
وفي يوم، وهو راجع من سهرة مع أقرانه وزملائه، مرّ بطريق المقابر،فتعثر، فوجد عظمة تحولت إلى رفات في يده عندما أمسكها،فقال:“يا ويلي، إنني سأموت، وسأصير ترابًا مثل هذه، وسأُبعث، وأُسأل، فماذا سأفعل؟”
ورجع إلى أمه، وقال لها:“ماذا يفعل السيّد بالعبد الآبق إذا عاد إليه؟”(العبد الآبق: الذي هرب من سيده ثم رجع).
قالت له:“يضع القيد في عنقه، ويُخشن عليه مطعمه ومشربه.”
قال لها:“أنا العبد الآبق، العائد إلى ربه، ضعي القيد في عنقي، وخشّني عليّ مطعمي ومشربي.”
واعتكف يعبد الله سبحانه وتعالى، ويقرأ القرآن، ويبكي، ويتوب، ويؤوب،حتى إن أمه كانت تذهب لتطمئن عليه فجرا، فتراه قائمًا يقرأ ويُناجي.
دخلت عليه يومًا، وهو يقرأ قول الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}[الأعراف: 6]
فقال:“يا الله! إذا كان المرسلون سيسألون، فماذا سيفعل الله بنا نحن؟!”
ثم قال لأمه:“إن لم تجديني في عرصات يوم القيامة، فاسألي عني مالكًا، خازن النار.”ثم شهق شهقة فمات رحمه الله تعالى.
كانوا يُنادون عليه لصلاة الجنازة:“هلمّوا إلى الصلاة على قتيل النار!”(مات خوفًا من النار).
قال الإمام ابن الجوزي:“فلم تُرَ جنازة أعظم، ولا أكثر جمعًا، ولا أغزر دمعًا، من جنازة دينار العيار.”
شيّعه الناس وهم يبكون، لأنهم يعلمون أين كان، وإلى أين صار.
فلما دفنوه رآه بعض أصدقائه تلك الليلة يتبختر في الجنة، وعليه حلة خضراء وهو يقرأ الآية(فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) ويقول وعزته وجلاله سألني، ورحمني، وغفر لي، وتجاوز عني ألا أخبروا عني والدتي.
لأنها كانت قلقة عليّ في الدنيا،كانت تدعو لي، فقلّب الله قلبي، وحوّله، بسبب صلاح أمي ودعائها.
فلا تستهينوا أبدًا بأمر الدعاء.
من الأمثلة الحديثة عن أثر الدعاء :
حدثني به أحد الإخوة – وهذا ثقة – وهو الوحيد الواسطة بيني وبين الشخص الذي حصل معه هذا الأمر بشكل مباشر.
شاب من الشباب السوريين الذين كانوا في سجن صيدنايا،وناله من العذاب ما ناله.
فقال له، كيف كانت الأمور داخل السجن، وقد كانوا يُعذَّبون عذابًا شديدًا.
فقال: “كنا ثلاث مجموعات،واتفقنا مع بعض أن كل مجموعة تدعو بدعاء،تختار الدعاء الذي ستدعو الله سبحانه وتعالى به.
فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءنا جميعًا، كل مجموعة بما دعت.”
فقلت له: “لكنهم لم يكن لديهم فقه الدعاء.” قال لي: “وما فقه الدعاء؟”
قلت له:“أن تسأل الله سبحانه وتعالى أعلى شيء.أنت تسأل الكريم، سبحانه وتعالى، وخزائنه مَلأى.
تقول له: ‘انقلني إلى سجن لا عذاب فيه’؟!هذا ليس من فقه الدعاء أبدًا.”
انظروا إلى قول الله تعالى:{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان: 74] لم يقل: “واجعلنا من المتقين.”
بل طلب المرتبة الأعلى، أن نكون أئمة للمتقين.
ارزقنا الفردوس الأعلى من الجنة، وليس “يا رب، أيّ مكان في الجنة وخلاص.”
اسأل الأعلى.
“اللهم أمتنا.”لماذا لا تدعو الله سبحانه وتعالى أن يُفرج كربك؟ أن ينجيك؟ أن يرزقك القوة والثبات؟
فانظروا كيف أُجيبت الدعوات لهؤلاء جميعًا، كل بما أمل ودعا، مفتقرًا، مبتهلًا إلى الله سبحانه وتعالى.
الموقف الآخر الذي يُؤكد على أثر الدعاء في استقامة وتقويم الأبناء –
سواء كانت المشكلة قطيعة، أو عقوق، أو أي شكل من أشكال المعصية أو النفور أو الفشل في الطاعة –:
رجل يقول: “أنا عجزت عن إرشاد ابني إلى الصلاة. لا يُصلي!”
أم تقول: “أنا أحاول مع ابنتي أن تلبس الحجاب، لكنها تنفر منه. لا تحب الحجاب.”
طيب، هل جربتم الحلول الربانية؟
كل هذه حلول عقلية، ومنطقية، وحوارية، ونفسية، وكلها مهمة،لكن: هل جرّبتم الدعاء؟
أحد الإخوة الأئمة – وكان هو الإمام الذي عرضت عليه هذه القضية –يستشيرني في قصة وقعت في إحدى الدول الأوروبية.
البنت ذهبت إلى الشرطة،وقالت: “أبي يُكرهني على الحجاب، ويضربني.”
فأخذوا البنت إلى دار الرعاية الخاصة بالشباب،وهي موجودة في كل بلد أوروبي.
وجاء الأب يستشير هذا الإمام.راحوا استشاروا محاميًا، طرقوا كل الأبواب الممكنة لاسترداد ابنته إليهم مرة أخرى.
فشلت كل المحاولات.ولم تثق الشرطة ولا المؤسسة الاجتماعية بالأب والأم،ولم يُعيدوا إليهم البنت.
أغلق الرجل الهاتف، وانقطع عن هذا الإمام.
الإمام يتصل عليه، يحاول أن يسأل… لا جواب.ثلاثة أشهر، أربعة أشهر.
حتى أرسل إليه رسالة وهو يبكي…قال له: “لقد وقعت المعجزة، وعادت ابنتي إليّ.”
فذهب إليه، وقال له: “قُل لي ماذا فعلت؟ هذه معجزة، أنا لم أسمع بها من قبل!”
قال له:“بعد أن عجزت كل الوسائل، وكل الأسباب الأرضية، لجأت إلى الله سبحانه وتعالى.
لقد عرفتُ الله سبحانه وتعالى في هذه المحنة.إن حياتي، وعبادتي، وصلاتي، ودعائي، قبل هذه المحنة شيء، وبعدها شيء آخر تمامًا.
لقد بلّلتُ وسادتي وسجادتي بدموعي.كنتُ أبكي بين يدي الله سبحانه وتعالى،أتضرع إليه أن يرد إليّ ابنتي.
أنا لم أعرف معنى قول الله تبارك وتعالى:{وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84]إلا عندما وقعتُ في هذه المحنة.
بكيتُ كثيرًا، فكنتُ أفقد بصري مثل سيدنا يعقوب،فأحسستُ بمعنى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ).
ففجأة، طرقت الشرطة الباب، وقالوا:ابنتك أخبرتنا أنها كانت تمر بأزمة نفسية،وأنها كذبت، وقالت هذا الكلام، وهو غير حقيقي وغير صحيح،وأنكم تحبونها…وعادت البنت إلى البيت،وعادت إلى حجابها،وعادت ملتزمة كما كانت،ببركة الدعاء، وصدق اللجوء، والافتقار، والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى.”
وقد أشرتُ إليه سابقًا، لكن الآن أشير إليه بتنزيل خاص على قضية مؤسسة الرعاية الاجتماعية – “الاسوسيال”.
سمعتم الضجة التي أُثيرت حول مؤسسة “الاسوسيال” في السويد،وسحب أولاد المسلمين، وكذا…لا شك أن هناك عنصرية ضد المسلمين من بعض الموظفين،وأن هناك تطرفًا من بعض الموظفين في السلوك أو في التعامل…لكن هذا ليس هو الخط العام.
لأن هذه المؤسسات عليها رقابة ومحاسبة من جهات مختلفة،ولا يمكن أن يُقدِم موظف على قرار يتوسّع فيه في الإجراءات، خوفًا أن يُحاسب هو.
لأنه لو ثبت أن هناك طفلًا:
فمن هو الشخص الذي سيُحاسب على هذا التقصير؟ إنه موظف مؤسسة الرعاية الاجتماعية، قبل أي جهة أخرى.
لذلك، هو يقوم بواجبه،وقد يتوسّع في سحب الطفل، وتحقق المحكمة،خير من أن يتجاهل، فيقع في التحدي والإشكال.
أنا بحثت في هذه المسألة طويلاً.والظاهرة – طبعًا – ظهرت في السويد بشكل كبير جدًا،وعملت رأيًا عامًا،والإخوة الذين يعملون في الإعلام، وعندهم شهرة، كانوا يدعون المسلمين إلى الهجرة من السويد.
ومفتي ليبيا، الشيخ الصادق الغرياني،بناءً على هذا الكلام، وبناءً على المعلومات التي نُقلت إليه عن هذه المؤسسة،قال:“إن الإقامة في السويد لا تجوز شرعًا، ويحرم على أي مسلم أن يعيش في السويد، ويجب عليه أن يهاجر،إلا إذا كان عنده حكم بالإعدام، أو مهددًا بالقتل إذا عاد إلى بلده.”
وهذا الكلام ليس تحيّزًا لهذه المؤسسة كما يفهم بعض الناس، كلا.
إذا أخطأت العائلة أو الأسرة في التعامل مع الطفل،سيُطبَّق عليها الإجراء أو القانون.
سيُدفع به إلى أسرة غير مسلمة،والنتيجة أن الولد سيتخرج مسيحيًّا عندما يتربى في هذه الأسرة.
هذا صحيح، سيحصل 100%. لكن: من المسؤول الأول عن هذا الخطأ؟ وعن هذا الإشكال؟
لماذا عندنا ملايين الأسر في ألمانيا،ومئات الآلاف من الأسر في السويد، أولادهم موجودون في المجتمع، ويعيشون فيه،ولم يحصل عندهم أبدًا هذا الإشكال؟
لماذا لم تظهر هذه الإشكالية إلا مع بعض المهاجرين الجدد،الذين وفدوا إلى البلاد وهم لا يعرفون الثقافة،فعاشوا في البلد بدون تثقيف، وبدون معرفة بالقوانين والنُظم،فكانت النتيجة أنهم ربّوا أولادهم وتعاملوا معهم بطريقة ونظام بلدهم الأصلي،فطُبّق عليهم القانون وسُحب الأولاد.
هل من المسلمين من فهم ما قصة هذه المؤسسة؟ ولماذا وُجدت تاريخيًا، لماذا وُجدت هذه المؤسسة؟ وجودها مهم جدًا.
بل، أنا أقول: ليتها موجودة في بلداننا العربية والإسلامية.
هل سمعتم عن شيء اسمه “أطفال الشوارع”؟هنا في أوروبا، في الغرب، لا يوجد شيء اسمه أطفال الشوارع.
الذين يُحرَمون من التعليم، ويُهانون، ويُستعبدون، ويتعرضون للأذى،ويُحرَمون من أبسط حقوقهم بالمئات والآلاف، هؤلاء موجودون في البلدان العربية.
لماذا لا يوجد هذا هنا؟لأنه توجد مؤسسة تقوم بالرقابة المجتمعية والقانونية على الأطفال.
هذه المؤسسة غاية في الأهمية.
هل لديها أخطاء؟ نعم.
هل هناك تجاوزات؟ نعم.
هل هناك تجاوزات ضد المسلمين تحديدًا؟ نعم.
لكن، كل هذا يمكن أن يُقوم، ويمكن أن يُرشَّد،ويمكن أن نسعى إلى تقويمه بالقوانين، بالمشاركة السياسية، بالوعي السياسي، بالحضور السياسي…كل هذا ممكن.
هذه المؤسسة تاريخها الحقيقي أنها ظهرت بعد الحرب في ألمانيا وفي أوروبا.
وجدوا أن هناك كثيرًا من الأطفال:
فأوجدوا هذه المؤسسة لتقوم بهذا الدور.
ثم بدأ يتطور دورها وعملها، وهي تُطبّق على كل الناس.
الكلام الذي رُوِّج له:أن “هذه مؤسسة تُنصّر أولاد المسلمين.”طيب، يا سيدي، أنت لا تريد أولاد المسلمين أن يُنصَّروا؟
ادعُ الأسر المسلمة أن تستضيف وتتبنّى (ليس التبني الشرعي المحرَّم)،بل أن تستضيف وترعى أولادًا من عائلات فيها مشاكل.
بعض العائلات تقول: “نحن عندنا استعداد للشروط المطلوبة.”طيب، لما يأتي الولد ويتربى عندك،سيتبع دينك تلقائيًّا، وسيصير مسلمًا.
لكن: من من الأسر المسلمة تقول:“إن لديها استعدادًا لاستقبال الأطفال”؟نادر جدًا أن تجد من يقبل بهذا الكلام، أو يقول: “أنا عندي استعداد.”
الأخطاء ستقع قطعًا، 100%.لكن يجب أن أتعامل بحكمة مع خطأ المُخطئ،مع خطأ ابني إذا وقع منه،والتعامل الخاطئ سيؤدي إلى خطأ أكبر منه.
يعني: أنا عندي رجل صالح جدًا، ومن أهل الصف الأول،وحرصه شديد على أن أولاده يتربّوا تربية إسلامية حسنة.
ابنه حلق حلقة غريبة كده، يقلد فيها مطربًا أو شيئًا من هذا النوع،حلقة فعلًا غير لائقة، وغير مناسبة.
فماذا فعل؟ قال له: “إذا لم تُغيرها غدا، لا تأتِ إلى البيت!”الولد لم يُحلّق ولم يأتِ إلى البيت.
قال له الأب: “خلاص، روح في داهية!”
ما النتيجة؟اتخذ خَليلة، وعاش معها في بيتها،فشرب الخمر، ووقع في كل الموبقات والمحرمات.
مع أن الولد فيه خير، وفيه صلاح، وفيه استقامة.
رجع إلى المسجد، يبكي، نادمًا على ما وقع منه،يقول: “إن أبي هو الجاني في هذا الأمر،لأنه طردني من البيت، فأين أذهب؟
وأنا كنت في لحظة ضعف، وكذا وكذا…”
فوضعت له برنامجًا، واتفقنا، وصالحته على أبيه، ورجع إليه.
ثم ذهب لدراسة العلوم الشرعية في بلد عربي،وعاد داعية وإمامًا، يدعو إلى الله سبحانه وتعالى.
يعني: فيه الخير، لم يكن سيئًا أو قبيحًا،لكن الخطأ في التعامل معه هو الذي أنتج هذا الإشكال الكبير.
فتاة تزوجت من شخص غير مسلم.خطأ كبير، لا شك.ولا يُعد هذا زواجًا أصلًا، لأن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج من غير مسلم.
ولا يُعد هذا في نظر الشرع زواجًا أصلًا.
طيب، الأب والأم يأتون ويقولون:“لا، هذه ليست ابنتي، ولا أعرفها.” كلا! يجب أن نتوازن، ونتعامل بحكمة.
نوازن بين:
وفي نفس الوقت، نعطيها مساحة.
لأنني عندما تعاملت مع هذه الحالات، قلت للأب:“طيب، أنت تقول: ‘البنت أجرمت هذه الجريمة، وعايزني أُكلمها؟! أرد على اتصالها؟!’طيب، الآن: إذا تركتها، فأنجبت،أين سيكون هذا الطفل الجديد؟ إلى من سينتسب؟!“الرجل الذي تزوجته وهو غير مسلم،
أليس هناك أمل في إسلامه؟ممكن يسلم، فنصحح الموضوع، وهي تتوب وتتزوجه زواجًا صحيحًا.”
إذا كان هناك علاقة حسنة معه،فالعلاقة هنا مطلوبة، حتى لا يزيد الخطأ.
هي أخطأت وتزوجت أو عاشت فيما يغضب الله سبحانه وتعالى،لكن لا نريد أن نصل إلى خطأ أكبر،بأن تنجب منه طفلًا في الحرام.
ومع ذلك، يقول الأب:“لا! أنا لن أعرفها، ولن أتواصل معها،ولا يوجد أي حديث أو كلام بيني وبينها!”هذا ليس منهجًا صحيحًا أبدًا.
فيجب أن نُربي أولادنا، وندرب أنفسنا، على:
من المواقف المهمة جدًا التي يتبيّن لنا فيها روعة منهج النبي ﷺ في التعامل مع المخطئ:
تعامل النبي ﷺ مع سيدنا خوات بن جبير، وهو صحابي جليل، اعتنق الإسلام،لكن كانت من الإشكالات التي عنده في الجاهلية، قبل الإسلام،أنه كان يُحب النساء، وتعلّق بهن،وكان عنده طريقة وأسلوب في جذب النساء،بالشعر، بالكلام، باللباس، بالهيئة…فالهوى موجود عنده.
فرجع مع النبي ﷺ من غزوة،وبعدما رجع، وجد مجموعة من النساء في مكان، يملأن القِرَب أو نحو ذلك،فـتذكّر ما كان يفعل، وقال:“دخلت خيمتي، ولبست عباءتي…”يعني لبس اللبس الجميل، وخرج ليمارس طريقته القديمة.
فقابله النبي ﷺ.والنبي ﷺ، بأبي هو وأمي، يعرف الصحابي، ويعرف أين هو ذاهب،فقال له:“إلى أين يا خوات؟”فـ ارتبك،واستحيا،
لا يستطيع أن يقول للنبي الحقيقة والصحابة كانوا يستحيون من النبي ﷺ.
سيدنا عبد الله بن عمر يقول:“كنا إذا خلونا مع نسائنا، نخشى أن ينزل بشأننا قرآن،فلما مات رسول الله ﷺ، انبسطنا.”
فقال له:“بعير ندّ لي يا رسول الله.”يعني: “بعيري شرد، أبحث عنه.”ولم يكن هناك بعير ولا شيء.
فالرسول ﷺ لم يحرجه، ولم يُفضحه إنما تبسّم له، وتركه، وكان كلما قابله، يداعبه ويمازحه،ويقول له:“كيف حال بعيرك النادّ يا خوات؟”يبتسم، ويتحرج، ويسكت.
مرة دخل النبي ﷺ يصلي،وكان سيدنا خوات في الصلاة،فأطال خوات في القراءة حتى يملّ النبي ﷺ ويخرج،ليُخفف عنه الحرج، ويهرب من المواجهة.فلما سلّم النبي ﷺ، جلس، وقال له:“طَوّل ما شئت يا خوات،سلم سيدنا خوات، فلما انتهى، قال له النبي ﷺ:
“كيف حال بعيرك النادّ يا خوات؟”فسكت.ثم قال له:“عَقَلَهُ الإسلام يا رسول الله،والله ما ندّ لي بعير منذ أسلمت.”
الهوى انكسر، والسلوك تغيّر، والأدب استقر،وانتهى الأمر.
هل يتخيّل أحدنا اليوم أنه يمكن إصلاح عيب عند ولده، أو مشكلة تربوية، بـ:
هذا هو المنهج النبوي في التعامل مع المخطئ.
من أكبر الأخطاء التربوية أن يُخاطب الأب ابنه كما لو كان يعيش في زمنه هو، أو كما لو أن الظروف لم تتغيّر. فبعض الآباء لا يرى إلا تجربته الخاصة:“أنا لم أتزوج إلا في سن الثلاثين، وأنت الآن تطلب الزواج في الثانية والعشرين!”
لكن هل هذا الابن يعيش نفس التحديات؟ نفس الضغوط؟هل الفتن المحيطة به، والانفتاح، والمغريات، والعالم الرقمي، والضغوط النفسية، تشبه ما كان عليه الحال من قبل؟ قطعًا لا.
ولذلك، من الضروري أن يُفهم الابن قبل أن يُوجَّه، وأن يُقدَّر وضعه النفسي والاجتماعي والديني، بدلًا من مطالبة مستمرة بالصبر والصبر دون دعم عملي، أو إغلاق لأبواب الحلال، خصوصًا الزواج، مما قد يدفعه إلى الحرام.
ومن أروع الأمثلة النبوية:حديث الشاب الذي جاء إلى النبي ﷺ يطلب منه أن يأذن له بالزنا.
فلم يصح عليه النبي، ولم يطرده، بل خاطبه بالعقل والقلب:“أترضاه لأمك؟ لأختك؟ لابنتك؟…”
فقال الشاب: “لا والله، جعلني الله فداءك.”
فدعا له النبي وقال:“اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه.”
فخرج وليس في قلبه شيء مما كان فيه.
كثير من الناس اليوم يظنون أن الهروب من المجتمع الغربي هو الحل لكل مشكلات الدين، لكن:
الهجرة ليست دائمًا حلاً، بل قد تكون أحيانًا هروبًا من الواجب والمسؤولية.
لو أن نصف المسلمين في مدينة مثل مونتريال (مثلاً) قرروا الهجرة خوفًا على دينهم، فماذا سيبقى من تأثير المسلمين هناك؟
كيف سيكون تمثيلهم السياسي، والدفاع عن حقوقهم، وتوفير المدارس الإسلامية، والتجمعات الدعوية والتربوية؟
بقاؤهم القوي، المنظم، الواعي، أفضل من تفرّقهم.
والأهم: هل مجرد تغيير المكان هو الذي يحفظ الدين؟
الجواب: كلا.بل الذي يحفظ الدين هو ما الذي سأفعله في هذا المكان؟
كيف سأربي أولادي؟
كيف أبني مؤسسات؟
كيف أؤثر بدل أن أتأثر؟
هذا هو التحدي الحقيقي.