إرسل فتوى

كيف نتلقى القرآن ونتأثر به؟

كيف نتلقى القرآن ونتأثر به؟22-quran-sunnah-supplications

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 7 مارس 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن رمضان شهر القرآن قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]، وفي شهر رمضان يحلو الحديث عن القرآن ومراجعة أحوالنا مع كتاب الله، ومِنْ تدارس واقع المسلمين في التعامل مع القرآن النظر في كيفية تلقي الصحابة للقرآن وتأثرهم وانتفاعهم به، وكيف يمكن أن نقارب حالنا بحالهم ـــ وإن كانت المسافة بيننا وبين الصحابة الكرام بعيدة ــــ عسى أن ننتفع بهدايات القرآن ونتلذذ بتلاوته وسماعه والاستشفاء بآياته، ومن أهم معالم تلقي الصحابة للقرآن وتجاوبهم مع آياته ما يلي:

  1. تعظيم القرآن والشغف به: لقد ربي النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام على حب القرآن والشغف به وتعظيمه في قلوبهم؛ فكانوا يترقبون نزول آياته، وعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن التعلق بالقرآن خير من الدنيا بل من أغلى ما يسعى المرء لتحصيله منها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم:” أَيُحِبُّ أحَدُكُمْ إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ أنْ يَجِدَ فيه ثَلاثَ خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمانٍ؟ قُلْنا: نَعَمْ، قالَ: فَثَلاثُ آياتٍ يَقْرَأُ بهِنَّ أحَدُكُمْ في صَلاتِهِ، خَيْرٌ له مِن ثَلاثِ خَلِفاتٍ عِظامٍ سِمانٍ” أخرجه مسلم في صحيحه. والخلفة: الناقة التامة على وشك الولادة وهي تمثل كرائم أموال العرب وأغلى ما يسعى المرء وقتها أن يمتلكه، فتشبع الصحابة بقيمة أن القرآن أغلى شيء في حياتهم، وهذا معنى بالغ الأهمية في عالم اليوم المادي خاصة في الغرب، وللجيل الجديد من أولاد المسلمين الذين يستثقلون حفظ القرآن وتلاوته ويجعلون تعلقهم به آخر اهتماماتهم، فالخطوة الأولى في استعادة وتصويب علاقتنا بالقرآن أن نجعل تعلقنا به وتعظيمنا له في أولى أولوياتنا واهتماماتنا وأن لا نقدم عليه شيء من أمور الدنيا وزخارفها.
  2. الإيمان قبل القرآن: من أهم ما يميز علاقة الصحابة بالقرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم الإيمان أولاً ثم القرآن ثانياً؛ فعن جندب بن عبدالله قال: كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ أي: الغلام إذا قوى وقارب البلوغ من سن 6 إلى 10 سنوات، فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيمانًا. رواه ابن ماجة والبخاري في التاريخ الكبير بسند صحيح. والصحابة الكرام يؤكدون على ذات المعنى وأنه سيأتي زمان تنعكس فيه الصورة فيُتعلم القرآن قبل الإيمان؛ فعن حذيفة قال: “إنا قوم أوتينا الإيمان قبل أن نؤتى القرآن، وإنكم قوم أوتيتم القرآن قبل أن تؤتوا الإيمان” رواه البيهقي بإسناد حسن، وعن ابن عمر قال:” تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا، وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان” فلابد من استعادة مفهوم الإيمان، وتعميق وترسيخ أركان الإيمان الستة في نفوسنا ونفوس أولادنا قبل أن نعلمهم القرآن، وأن يكون ذلك في مرحلة مبكرة من العمر، وأن نوازن بين حفظ القرآن وفهمه حتى يزداد المؤمن بقراءته إيماناً. ونتيجة تعلم الصحابة الإيمان قبل القرآن كانت فترة مكثهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أياما معدودات ثم ينطلقون دعاة هداة لأقوامهم إلى الإسلام ويمكثون فيهم سنوات كسيدنا أبي ذر الذي بقي في قومه يدعوهم 17 سنة، والطفيل بن عمرو الدوسي الذي بقي قرابة سبع سنوات؛ لأن قاعدة إيمانهم كانت قوية صلبة وصادف الإيمان قلوبا عطشى فتمكن منها ثم ارتوى هذا الإيمان بآيات القرآن.  
  3. الآمر قبل الأمر: الصحابة أيضا عرفوا الآمر المولى الجليل سبحانه وتعالى قبل أن يعرفوا أوامره من طلب فعل المأمورات وترك المنهيات، فأعطوا القرآن حقه تعظيما وتوقيرا وامتثالا وفهما وتعقلا؛ فهذا أعرابي لا يحفظ القرآن لكنه يعرف الآمر ومنزل الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم يسمع الأصمعي يقرأ الآية في سورة المائدة ويخطئ فيها فيقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ والله غفور رحيم﴾ [المائدة: 38] فيسأل كلام من هذا؟ فيقول الأصمعي كلام الله عزو وجل فيقول الله لا يقول هكذا، كيف يكون غفورا رحيما ثم يقطع؟ فعاد الأصمعي إلى المصحف فوجد ختام الآية عزيز حكيم فقال هكذا يكون كلام الله، عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع. فأنت إذا عرفت الآمر وأحببته وعلمت أنه يحبك أبدعت في طاعة أوامره، وأما إذا عرفت أوامره قبل أن تعرفه وتحبه تحايلت على التهرب من أوامره والتفلت منها، وهذا في موازين البشر فما بالك بالمولى الجليل سبحانه وتعالى.
  4.  استشعار أنك تقرأ كلام الله تعالى: نسب الله القرآن إلى نفسه فقال: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ [القيامة: 18]، وتكفل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] فأنت حين تقرأ القرآن وتستشعر أنك تقرؤه متصلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى جبريل ثم إلى المولى الجليل لابد أن تتغير عند تلاوتك وسماعك للقرآن؛ ولهذا انظر إلى هذا الموقف لهذا الأعرابي الذي استشعر هذا المعنى وهو يستمع إلى كلام الله لأول مرة كيف تفاعل معه وكيف توقف قلبه وفاضت روحه تجاوبا وتأثرا بكلام الله؛ يحكي الأصمعي قائلاً: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل علي منه شيئا، فقرأت والذاريات ذروا إلى قوله : وفي السماء رزقكم فقال: يا أصمعي حسبك ! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: وفي السماء رزقكم وما توعدون فمقتُ نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل عليَّ كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت والذاريات ذروا حتى وصلت إلى قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فقال  الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا ؟ قلت : نعم ; يقول الله تبارك وتعالى : فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون قال : فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه . فهذا الأعرابي استشعر أنه يقرأ كلام الله الذي يؤمن به فصدقه وأيقن به فنحر ناقته وتصدق بها وتعجب لقسم يأتي بعد وعد الله حتى فاضت روحه فقط لأنه استشعر هذا المعنى، فكيف نتعامل نحن اليوم مع أمر الرزق والتقاتل عليه والخوف عليه والموت حزنا على فواته وعدم تحري الحلال للوصول إليه، فهل يعكس كل هذا ما تقرر بالقسم من الله عليه في سورة الذاريات؟

إن بلوغ هذا المستوى من تلقي القرآن والتأثر به والتفاعل معه والعمل بما فيه ليس سهلا ولن يأتي إلا بطول المجاهدة والصبر على القرآن وكثرة تلاوته وسماعه، فلنقرأ القرآن كثيرا في رمضان بفهم وبغير فهم، بتدبر وبغير تدبر، بتأثر وبغير تأثر، فشيء خير من لا شيء، ولنعلم أن طريق التجاوب والتأثر والترقي مع القرآن طويل ويبدأ بكثرة التلاوة والسماع وأنت في كل الأحوال رابح فائز؛ فعن أبي هريرة قال: قال اللهُ تبارَك وتعالى :” أنا مع عبدِي ما ذكَرني وتحرَّكَتْ بي شَفَتاهُ” ابن حبان بسند صحيح.

اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وأحزاننا، اللهم اكتبنا من عتقاء شهر رمضان، وبلغنا ليلة القدر، وكن لأهلنا وإخواننا في غزة وفلسطين عونا ونصيرا وسندا ومعينا، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80