إرسل فتوى

قيمة الزمن بين حضارتين

قيمة الزمن بين حضارتين 546ec4e64b3d31960295699

خطبة الجمعة في مسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 3 يناير 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فهذه الجمعة هي الأولى في شهر رجب الفرد أحد الأشهر الحرم والذي نقترب بحلوله من شهر رمضان، وهي أيضا الجمعة الأولى في عام ميلادي جديد  انقضى من أعمارنا قبل يومين وأقبل عام ميلادي جديد، نقصت به آجالنا، وقلت به أعمارنا، ونقص به رصيدنا ورأس مالنا وهو الزمن.

وقد عشنا عاما ميلاديا مليئا بالحزن والألم والعجز والحسرة لما يجري لأهلنا وإخواننا في غزة من تقتيل وإبادة جماعية ومعاناة لأهوال الحرب والبرد والجوع، كما عشنا حدثا فريدا وسعيدا لأهلنا وإخواننا في سوريا حيث تحررت أوطانهم من قبضة الظلم والطغيان بعد تضحيات هائلة امتدت لعقود طويلة.

والزمن له قيمة كبرى في حياة المسلم وفي الحضارة الإسلامية؛ فقد أقسم الله بالزمن في مفتتح سورة كثيرة من سور القرآن لعظم قدره وقيمته عند الله، فأقسم بالليل والشمس والضحى والعصر، وشعائر الإسلام وفرائضه الكبرى تذكرنا وتغرس فينا استشعار قيمة الزمن، فالصلاة تؤدى عند دخول الوقت ولكل فرض وقته لا يؤدى قبله أو بعده، والصيام لا يصح إلا بدخول وقته وهو شهر رمضان والإمساك له وقت والفطر له وقت، والحج له وقت معلوم في العام وأنساك الحج وأعماله لها أوقات معلومة لا يصح أن تؤدى قبل أو بعد، والزكاة لها وقت وهو رأس الحول الهجري لا تؤدى قبله إلا استثناء لضرورة ولا تؤدى بعده.

والقرآن الكريم يحدثنا في قرابة العشرين موضعا عن أمنية الناس ساعة الاحتضار ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون: 10-11] أو في الآخرة أنها أن يمنحوا فرصة الزمن ليعملوا فيه صالحاً قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ ‌يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾ [فاطر: 36-37] ،

وقد اعتبر الأستاذ مالك بن نبي الوقت شرطا من شروط النهضة بالإضافة إلى التراب والإنسان، وينتهي إلى أن إدراك قيمة الزمن يعني إدراك قيمة الحياة وحصول التأثير والإنتاج، ويضرب مثالاً على ذلك بألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية والتي تركت ألمانيا عام 1945م قاعا صفصفا لا تملك أيا من مقومات النهضة وبدأت من الصفر واستطاعت خلال عشر سنوات تقريبا أن تذهل العالم بمعجزة في الصناعة والتقدم، وأهم عامل أدى لتلك النهضة هو عامل الزمن فقد فرضت الحكومة عام 1948م على الشعب الألماني كله نساء وأطفالا ورجالا التطوع بالعمل ساعتين يؤديها كل فرد يوميا مجانا للصالح العام، وسمي هذا التجنيد العام: Roboter Arbeit

بينما في الحضارة المعاصرة رغم التطور العلمي المذهل الموفر للوقت والميسر للإنجاز في وقت أقل بكثير مما كان في الأزمنة السابقة إلا أن تلك الحضارة تفننت في قتل الوقت وإضاعته بل والاحتفال بمرور الزمن وخسارته، فيحتفلون بكل عام ينقضي من حياة الإنسان، وبكل عام ينقص من حياة الأمم ويطلقون لذلك الألعاب النارية التي تعبر عن الفرحة بنهاية عام وحلول عام، وتكثر المقاهي التي يضيع عليها الكثير من الأوقات، ثم ظهرت الشبكات والهواتف التي تعتبر سارق الزمن الأكبر في عصرنا، وما درى هؤلاء أن كل يوم وعام يمر يقترب الإنسان به من القبر وتتراجع فرصته في التسابق للعمل الصالح في الدنيا ويضعف بدنه عن أن يعمل صالحا كما قال الحسن البصري: “ابن آدم إنما أنت أيام مجتمعة فكلما ذهب يوم ذهب بعضك”، وهذه جملة من معالم العناية بالزمن في حياة المسلم المعاصر:

  1. الحذر من قاتل الوقت الأكبر في عصرنا: تحدث أئمة السلف قديما عن قتلة الوقت فقالوا: التسويف، والغفلة عن قيمة الوقت، ولكن الآفة الأخطر على قتل الوقت في زماننا هي الهواتف والشبكات ومنصات التواصل التي تقتل الوقت وتضيع الأعمار والتي ابتلي بها الصغار والكبار، فإن الدراسات تتحدث عن متوسط ما ينفقه الشباب والناس على شاشات الهواتف في اليوم وأنه بين 4 إلى ست ساعات يعني قرابة 42 ساعة في الأسبوع، يعني قرابة 180 ساعة في الشهر، يعني قرابة ثلاثة أشهر في العام يعني بضعة سنوات من العمر تضيع ويسأل عنها ويمكن أن ينجز فيها الكثير من الواجبات والمهام والأعمال، فكم يقرأ الشباب من الكتب وكم يحفظون من القرآن وكم يتعلمون من اللغات والعلوم الجديدة في هذه الأشهر والسنوات؟ وقد اطلعت على دراسة ترسم خطا بيانيا لتطور الوقت الذي ينفقه الناس على الانترنت والشبكات والمهام الأخرى من أسرة وعائلة ودراسة ومسجد وجيران وطعام ولقاء الأصدقاء تقول: إن 60 % من الوقت يذهب للإنترنت والباقي موزع على هذه المجالات في عام 2024م وهو مرشح للزيادة في الأعوام القادمة. إن الشبكات والهواتف لها أضرار كثيرة جدا، كالتشتت، وانتهاك الخصوصية والتجسس، وقلة الصبر على القراءة وطلب العلم، والإدمان بمخاطره، والأخطار الاجتماعية المهددة للأسر، وأشد هذه المخاطر في تقديري هو خطر ضياع الوقت فعلينا في مستهل عام ميلادي جديد أن نرشد علاقتنا بالهواتف وأن نكون قدوة صالحة لأولادنا وأن نجاهد أنفسنا في تقليل الوقت الذي ننفقه من أعمارنا عليه.
  2. التركيز على الأعمال والأسباب التي تطيل الأعمار: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: “خيركم من طال عمره وحسن عمله” ولكن الأعمار قصيرة والآجال محدودة، وهي على قصرها كثيرا ما يضيع منها ما يضيع فلا يبقى لنا منها إلا قليل القليل؛ لذلك وجب علينا التركيز على الأعمال التي يتضاعف الأجر عليها فتتضاعف الأعمار بها وإن قصرت، كالاشتغال بالدعوة إلى الله ودلالة الخلق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن دعا إلى هُدًى كان له مِن الأجرِ مِثْلُ أجورِ مَن تبِعهُ لا ينقُصُ ذلك مِن أجورِهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه مِن الإثمِ مِثْلُ آثامِ مَن تبِعهُ لا ينقُصُ ذلك مِن آثامِهم شيئًا” أخرجه مسلم في صحيحه. وكالرباط في سبيل الله، فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال على المنبر: أيها الناسُ إني كتمتُكم حديثًا سمعتُه من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ كراهيةَ تفرُّقِكُم عنِّي ثم بدا لي الآنَ أحدِّثُكموه ليختارَ امرؤٌ لنفسِه ما بدا له سمعت رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول :” رباطُ يومٍ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من ألفِ يومٍ فيما سواهُ من المنازلِ” أخرجه أحمد بسند صحيح. والرباط مفهومه عام كرباط أهل غزة، والرباط في ميادين الدعوة والتربية والتعليم والفكر والتأليف والسياسة والعمل.
  3. العمل على استمرار الأثر بعد الموت: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له.” فالصدقة الجارية هي التي تبقى للإنسان بعد موته فهذا عمر جديد إضافي للمسلم ولو بعد مفارقته للحياة وقد شُرحت في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه عِلمًا علَّمَه ونشرَه وولدًا صالحًا ترَكَه ومُصحفًا ورَّثَه أو مسجِدًا بناهُ أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ أو نَهرًا أجراهُ أو صدَقةً أخرجَها من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ” ابن ماجة بسند صحيح. وأبواب الصدقات الجارية والأوقاف العامة كثيرة جدا أمام المسلمين في أوروبا.
  4. تنظيم الأوقات وشغلها بما يفيد: لابد لنا أن نتعلم كيف ننظم وقتنا ونرتب أولوياتنا، ونشغل الزمن بما يفيد حتى لا نندم يوم لا ينفع الندم على ضياع وفقدان أغلى ما نملك، والمسلم الذي يترك العمل ويعيش على المساعدات الاجتماعية في أوروبا رغم قدرته على التعلم والكسب لم يدرك قيمة الزمن ولم يفهم حقيقة الإسلام.

اللهم فرج الكرب والهم عن أهلنا وإخواننا في غزة أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وقهم البرد والمرض، وتمم الفتح والنصر لأهلنا وإخواننا في سوريا، وبارك لنا في أعمارنا وأحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80