إرسل فتوى

قواعد في التعامل مع الأحداث والأزمات

قواعد في التعامل مع الأحداث والأزمات

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. ألمانيا . بون 11 أكتوبر 2024م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن أمتنا تمر بمرحلة من أدق وأصعب مراحلها في تاريخها الحديث؛ فقد انقضى عام على الحرب في غزة وبدأ عام جديد لم تتوقف خلاله الإبادة الجماعية لأهلنا وإخواننا في غزة الأبية وسط خذلان عربي ودعم غربي وعالمي، وكسل وفتور شعبي عن استمرار النصرة والتضامن والإنكار للظلم والقتل والإبادة، وثبات وصبر أهل غزة وفلسطين المرابطين الصابرين، ثم اتسعت دائرة الحرب إلى لبنان وبات الناس في حزن وضيق حيث تتابعت الآلام والجراحات عليهم من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر.

وقد خلَّفت تلك الأحداث أسئلة كثيرة واختلافاً كبيراً حتى في الأوساط العلمائية، واتسعت دائرة الاستقطاب والانقسام والتفتيت المستمر لجسد الأمة وبنيانها في وقت أحوج ما تكون للتراص والوحدة والالتئام، وأمام هذا الحال أضع جملة لأهم القواعد التي تمثل منهجاً للتعامل مع الأحداث والفتن كما يلي:

1- المبدئية لا المصلحية:

يعلمنا القرآن الكريم تقديم المبدأ على المصلحة حال التعارض قال تعالى:(وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (النحل: 94)، فالوفاء بالعهود والعقود مبدأ عظيم وقيمة راسخة، فإذا اتخذ المسلمون أيمانهم دخلا بينهم، وخديعة يخدعون بها من عاهدوهم؛ فإنّهم يهدرون مبدأ الوفاء، وهذه المبدئية رسخها النبي صلى الله عليه وسلم وعلمها لأصحابه في عشرات المواقف، فقال في غزوة أحد: لا ينبغي لنبي لبس لأمة الحرب أن ينزعها ليثبت مبدأ العمل بالشورى، ورفض الإخلال بالاتفاق المبرم بينه وبين قريش على ما فيه من ظلم للمسلمين في صلح الحديبية ليثبت مبدأ الوفاء بالعهد، وعلمنا أن لا نسير مع الناس إن ضلوا الطريق مهما كثروا وأن نثبت على مبدئنا فقال:” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا” أخرجه الترمذي بسند صحيح. والمشاهد لواقع المحنة والأزمة التي تمر بها الأمة الآن يلحظ إهدار الكثير من المبادئ والقيم لما يُظن أنه مصلحة ضيقة.

2- الإنصاف والتوازن:

يعلمنا القرآن الكريم خلق الإنصاف والعدل في الحكم على الأشخاص والمواقف فيقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا ‌يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة: 8] 

أي: لا يحملنكم بغضكم لقوم على أن لا تعدلوا معهم، فمن حقك أن تبغض شخصا أو جهة لفعل صدر منه، أو تفرح لانتقام الله منه لظلم وبغي وقع فيه فتلك عاطفة وفطرة لا يملك أحد منعها، لكن ليس من العدل والإنصاف أن تشهد له بخيرٍ فعلَه أو ظلمٍ منعه إن كان قد وقع منه أي فعل حسن، والقرآن يعلمنا التوازن وعدم الجور في المواقف والأحكام قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [الرحمن: 9]، وقد رأينا التوازن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والتوازن اليوم مطلوب بين العقل والعاطفة، فلابد من إلجام نزوات العواطف بنظرات العقول، والتوازن بين مصالح الأقطار ومصالح الأمة وبين الشأن العام والخاص، هذا التوازن الذي تراجع كثيراً في الأحداث الأخيرة فوقع التطفيف والإخسار وصرنا بين بئر معطلة وقصر مشيد، وغابت الرؤية الوسطية المعتدلة في التعاطي مع الأحداث قولاً وفعلاً.  

3- النظرة الكلية الجامعة لا الجزئية القاصرة:

لقد ركز المنهج القرآني والنبوي على تغليب النظرة الكلية على الجزئية، وتقييم الموقف من جميع الجوانب والزوايا، كما في قصة موسى والخضر، النظرة الجزئية المبنية على عدم العلم جعلت موسى عليه السلام ينكر المنكر الظاهر من قتل الغلام إلى خرق السفينة إلى إقامة الجدار، بينما كانت النظرة الكلية الأوسع للخضر المبنية على: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ ‌لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف: 65] تقضي بغير ذلك وهو ما ظهر لموسى عليه السلام بعد أن أطلعه الخضر على ما لم يستطع عليه صبراً، وهو أيضا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في عشرات المواقف تعليماً لأصحابه كما في صلح الحديبية والأحزاب وسائر المواقف. وحاجتنا اليوم إلى تلك النظرة الكلية الجامعة ماسة بعد أن غلبت النظرات الضيقة الجزئية المحدودة التي تتركز على قطر أو طائفة وإن تهددت مصالح الأمة بأسرها.

4- الاجتماع على مقاومة الظلم وإقامة العدل:

إن أخطر ما في تناول الأحداث الدامية الجارية هو الانشغال بأي شيء عن مقاومة طوفان الظلم والسعي لإقامة العدل، فنحن مأمورون بتحقيق هذه القيمة العليا في الإسلام قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ‌بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فلا يصح أن ينشغل المسلم عن إنكار الظلم بأدوات الإنكار المتاحة والمباحة بجدل عقيم أو إحياء عصبيات مقتها الإسلام، فواجب الوقت هو رفض الظلم أيا كان المظلوم، وإقامة العدل في أي بقعة أو أرض.

5- تفعيل فقه الأولويات والموازنات والمآلات:

هذه الألوان من الفقه كثيراً ما سمع الناس بها وأُرشدوا إلى فهمها وضرورة العمل بها، فالأولويات تقضي بتقديم ما حقه التقديم وهو المصلحة العامة للأمة على المصلحة الخاصة، وإيقاف الدماء، وإغاثة المتضررين واجتماع الكلمة ووحدة الصف لا تفريق الأمة وتشتيت وبعثرة جهودها، والموازنات تقضي بظهور مفاسد الظلم والإبادة الجماعية وعلو سلطان الاحتلال والبغي، وضرورة اصطفاف الأمة وعلمائها ومفكريها لمواجهة القتل والإبادة الجماعية للأبرياء والمدنيين وحماية المقدسات وحراسة الثوابت، والبصر بالمآلات والعواقب ينتج أن ما يجري من انقسام واستقطاب يضر بالمصالح العليا للأمة ولا يفيد سوى خصومها والمتربصين بها.

اللهم يا رافع السماء بلا عمد ارفع راية الحق والعدل والحرية والإنسانية في كل مكان، اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع كلمة المسلمين ووحد صفوفهم وألف بين قلوبهم يا رب العالمين. اللهم كن لأهلنا وإخواننا في غزة والسوادان ولبنان وكل مكان وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي
المقالات: 161