إرسل فتوى

في ظلال سورة الأحزاب

في ظلال سورة الأحزاب

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا. 2 أغسطس 2024م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وبعد:

فقد اهتم القرآن الكريم اهتماماً  كبيراً بشأن الغزوات ووقائع السيرة الكبرى، وخصص سوراً كاملة لغزوات بعينها كسورة آل عمران المخصصة لغزوة أحد، وسورة الأنفال لغزوة بدر، وسورة التوبة لغزوة تبوك، وسورة الفتح لصلح الحديبية، وسورة الأحزاب لغزوة الأحزاب أو الخندق. ومن هنا علينا أن نهتم بالأشياء على قدر اهتمام القرآن الكريم بها، وأن نبحث عن الحدث التاريخي الذي أولاه القرآن عنايةً وله اتصال بواقعنا وأن نتدارسه لنأخذ العبرة منه، والقرآن الكريم يدعونا بصورة دائمة إلى التذكر والاستذكار والاعتبار بالتاريخ ومصائر السابقين ونجاتهم أو هلاكهم؛ قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ‌مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26] وقال أيضا في سياق الحديث عن غزوة بني النضير في سورة الحشر: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي ‌الْأَبْصَارِ ﴾ [الحشر: 2].

وأمتنا الجريحة اليوم تتابعت عليها أسباب وعوامل الانكسار والهزيمة النفسية خاصة مع استمرار الحرب طويلة الأمد على غزة الأبية وسقوط آلاف القتلى والجرحى من النساء والأطفال والمدنيين واستمرار حرب الإبادة الجماعية وانتهاك كل القوانين الدولية والأخلاقية والإنسانية تحت سمع العالم وبصره وتأييده وتصفيقه للقاتل وإغماض عينيه عن ألم المقتول وجراحه.

وهذا الحال يشبه حال المسلمين في غزوة الأحزاب حيث تجمعت الأحزاب على المسلمين وحاصرتهم وخططت لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش المسلمون ظرفا عصيباً لم يشهدوه من قبل وقد وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ‌وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10-11]

وهذه رسائل من سورة الأحزاب في سياق هذه الظروف العصيبة التي نمر بها:

1-ضرورة إحياء الربانية والعودة إلى القرآن الكريم:

لا يُخرج الإنسان من حالة الإحباط واليأس والهزيمة النفسية التي تحيط به إلا توثيق صلته بربه وإدامة النظر في القرآن الكريم وتدبره، وسورة الأحزاب وغزوة الخندق مليئة بالمواقف والتوجيهات التي تركز على إحياء الربانية كالأوامر الثلاثة التي بدأت بها للنبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا ‌النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [الأحزاب: 1-3]، وحفاظ النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة في أحلك الظروف وأصعبها؛ حيث اضطر لتأخير صلاة العصر عن وقتها إلى قرب صلاة المغرب حتى دعا عليهم قائلاً:” مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وبُيُوتَهُمْ نَارًا، كما شَغَلُونَا عن صَلَاةِ الوُسْطَى حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ. وهي صَلَاةُ العَصْرِ.” وكذلك ضراعة النبي صلى الله عليه وسلم وإكثاره من الدعاء ومنه قوله:” “اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا” وبسبب هذه الربانية والقوة الإيمانية قال المؤمنون لما رأوا الأحزاب تجمعت عليهم مع قلة عددهم وعتادهم: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا ‌وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22] وهو تعبير عجيب جداً أن تزيدهم الشدة والاقتراب من الهلاك إيماناً وتسليماً، أما اليوم مع ضعف الإيمان وقلة اليقين فتضاعف الابتلاء يزيد الناس يأساً وانكساراً، وهو غاية ما يريدهم عدوهم بهم.

2- استعادة الأمل واليقين في وعد الله مهما كانت الأحداث:

لا يتخيل أحد أن يتم حديث عن بشارات وآمال كبرى في وقت اشتداد الحصار والضيق والأذى بالنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته؛ لكنه صلى الله عليه وسلم يفعل في شدة الحصار والمحنة: ففي أثناء حفر الخندق شكا الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم وأخذ الفأس وقال:بسم الله، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا” وقد وقعت كل هذه البشارات بعد العهد النبوي، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وأيضاً يدل على أهمية غرس الأمل في أوقات الشدائد والمحن.

3- إدراك طبيعة المنافقين واستمرار وجودهم في كل عصر:

في سورة الأحزاب مواضع كثيرة تتحدث عن المنافقين وتدعو للحذر منهم وإدراك طبيعتهم واستمرار وجودهم في كل عصر قال تعالى: ﴿‌وَلَا ‌تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ [الأحزاب: 48]، ويصور القرآن الكريم دورهم في التخذيل وبث الفتن في صفوف المؤمنين فيقول تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا ‌غُرُورًا﴾ [الأحزاب: 12] ثم يحرضون أهل المدينة على العودة إلى بيوتهم وترك صفوف المرابطين قائلين: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13]، فكونوا على علمٍ بطبيعة المنافقين وأدوارهم أفراداً وجماعات ولا تنخدعوا أو تنشغلوا بهم.

4-التأييد الإلهي يأتي بعد استفراغ الوسع في الأخذ بالأسباب:

أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب الكاملة لتحقيق النصر فحفر الخندق، وأحكم التخطيط، واستعمل الوسائل المشروعة لإحباط خطط العدو، وأحسن التفاوض، حتى جاء المدد والـتأييد الإلهي قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ ‌رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9]، فهل أخذنا بأسباب النصرة الداخلة تحت وسعنا والمقدور عليها والممكنة واقعا وقانوناً أم قصرنا وخذلنا إخواننا وأهلنا؟!

اللهم فرج كرب أهل غزة وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، والحمد لله رب العالمين.

 

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي
المقالات: 161