هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
في رحاب المدرسة الغَزية

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 17 أكتوبر 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فنحمد الله تعالى أن توقفت هذه الحرب الظالمة على أهلنا وإخواننا في غزة بعد أن خلَّفت دماراً كبيراً للإنسان والعمران امتد على مدار أكثر من عامين، وندعو الله أن تتوقف الحرب أبداً وأن يعم السلام والأمن أرجاء العالم، وأن يربط على قلوب أهل غزة وأن يعوضهم خيراً وأن يجعل لهم العاقبة بما صبروا، وهذه الحرب الظالمة وصمود وصبر أهل غزة يحمل الكثير من الرسائل والدروس والعبر وسأتوقف عند أهم الرسائل والدروس التي نتعلمها من مدرسة غزة، فما هي أهم الرسائل التي يحتاجها المسلمون في الغرب خاصة الجيل الجديد من أهل غزة؟ وما الذي يجب علينا نحوهم بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟
فإن الجيل الجديد ومن يعيش في أوروبا بالعموم يتشبع بالقيم المادية وتضعف عنده المعاني والروحانيات، ويتراجع أو ينعدم الشعور بالافتقار إلى الله فلا ترى أثره في الدعاء وسؤال الله الحاجات صغرت أم كبرت، وإذا عدنا إلى الخلافات الأسرية ستجد أن أغلبها راجع إلى الخلافات المادية في غياب شبه تام للمعاني والقيم التي يجب أن تكون حاضرة في كل أسرة.
إن أظهر ما كشفته الحرب الظالمة على غزة هو ظهور القيم والمعاني والنظر إلى الآخرة هناك وغيابها هنا.
وهذه جملة من أهم دروس وواجبات ما بعد الحرب على غزة:
1- إحياء المعاني والقيم:
أن تعيش أسرة بصغارها وأطفالا عامين متواصلين تحت القصف وأهوال الحرب ترى الموت خلالها مرات وكرات، لا تجد فيه أغلب وقتها قوت يومها، فقدت يقينا أقارب أو إخوة أو أب أو أم أو فقدتهم جميعاً، لها تحت الأنقاض أحباب لم تتمكن من دفنهم كما يُدفن البشر، يعلم أحدهم أنه لو أصيب لن يجد علاجا أو مشفى يتداوى فيه إما لأنه غير موجود لقصفه وتدميره، أو لأنه لا يستطيع الوصول إليه، أو لأنه لا علاج فيه أو فيه من هو أولى منه.
ما الذي يحمل إنساناً على تحمل تلك الأهوال لعامين متتاليين؟ سوى الإيمان بالله والصبر والرضا على قضائه.
فمن أهم الدروس التي يحتاجها شبابنا في الغرب من أحداث غزة التحلي بالقيم في مقدمتها الصبر على الابتلاء ومعرفة عاقبته وجزائه، فهو العبادة الوحيدة التي لا يحد أجرها بحد قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]، وهم الذين لهم البشرى قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]
وهم الذين يربحون معية الله فيكون معهم برحمته ومعونته وتأييده ونصره، وقد تكرر هذا المعنى أربع مرات في القرآن الكريم:
كقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153] ، قارنوا بين صبر أهل غزة وبين صبر شبابنا عن ترك الهاتف لساعات، وبين صبرهم على الطاعة والعبادة، أو الدراسة والتحصيل!! ثم قارنوا بين صبر أهل غزة على ما لاقوا وبين صبر الأزواج والزوجات على بعضهم وأولادهم وأسباب الشقاق والطلاق في عالمنا اليوم وفي الغرب بصورة خاصة!!
إن مجاهدة النفس أمام رغباتها وتطلعاتها هو ما نحتاج أن يتعلمه شبابنا اليوم، وأن نعود إلى تقييم الأمور بمعانيها لا بوزنها المادي.
2- أن تحيا لغاية وتدافع عن مبدأ:
لقد لاحظت أن بعض الأوروبيين الذين اعتنقوا الإسلام بسبب أحداث غزة كان الدافع وراء قرارهم هو التفكير في سؤال الغاية والمبدأ أي: كيف لإنسان يضحي بحياته وأولاده من أجل أرضه، ومقدساته، ويستعذب ذلك ، ولا يفكر في الفرار والرحيل عنها، ولماذا أعيش أنا؟
وما هي النهاية التي تنتظرني بعد حياة طويلة مترفة؟
وهي يعقل أن تكون الدنيا هي المبدأ والمنتهى؟
وهذا درس مهم لنا ولشبابنا مراجعة مشروعك وغاياتك في هذه الدنيا وأين الآخرة في مشروعك؟
وأين ما تضحي لأجله أو تدافع عنه؟
وهل هناك صاحب مشروع أو مبدأ لا يدفع ثمن مبدئه والدفاع عن مشروعه؟
ولماذا جاهد الأنبياء جميعا في سبيل دعوتهم ورفضوا المساومة والعروض لتركها، وأوذوا في سبيل رسالتهم وأُكرهوا على الهجرة من أوطانهم التي أحبوا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [الأنعام: 34]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].
3- معرفة حقيقة الدنيا واليقين في وعد الله:
شبه الله الدنيا في القرآن في أكثر من موضع بالماء ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾ [الكهف: 45]، لتقلبها وزوالها، وعدم قراراها، ومن دخلها لا يسلم منها كمن دخل الماء لابد أن يبتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يشبه الدنيا بالمقارنة مع الآخرة في حديث عجيب فيقول: “ واللهِ ما الدنيا في الآخرةِ إلا مثلُ ما يجعلُ أحدُكم إصبعَه في اليمِّ ، فلينظر بم يرجعُ” أخرجه مسلم عن المستورد بن شداد.
فالدنيا كل الدنيا وليست دنياك أنت حقيقتها ومقدارها هو ما يعلق في إصبعك إذا وضعته في البحر الكبير المملوء بالماء، أما الآخرة فهي ذلك البحر الكبير، وأهل غزة جعلوا الدنيا دبر أعينهم ففقدوا كل شيء دنيوي من مال ومتاع وأولاد، ولكنهم إن شاء الله سيربحون الآخرة، ولا شيء يعين على تحمل الفقد سوى الاحتساب والنظر إلى وعد الله في الآخرة، ما الذي يجعل أبا أو أما يفقد أعز ما يملك ثم يلقاه صابرا محتسبا سوى يقينه في وعد الله له أن ولده شهيد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وما الذي يجعل شعبا أعزلا يصمد في وجه عالم قبيح لعامين سوى يقينه في أن النافع والضار والموت والحياة بيد الله وحده، وأنه مهما تعددت المخاطر وأسباب الهلاك إن كتب الله لك النجاة ستنجو، وأن العالم بأسره لو اجتمع على ضررك وهزيمتك لا سبيل له إلى ذلك إلا بأمر الله وحده.
قال صلى الله عليه وسلم:” واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ ” الترمذي بسند صحيح.
3- الدور المركزي للمرأة في المجتمع:
الحرب على غزة أظهرت دوراً مركزيا للمرأة في الثبات والصمود وأنه لولا تلك المرأة الغزية الصابرة الواعية لما وُجد هذا الجيل الصابر الصامد المؤمن الموقن في وعد الله للمؤمنين، لقد قدمت المرأة الغزية نموذجا رائدا وفريدا لما يجب أن تكون عليه المرأة في أي مجتمع ينشد الرقي والتحضر، فجعلت دورها الرئيس هو تربية وصناعة الأجيال ووظفت تعليمها وحصولها على أرقى الشهادات في تربية وتعليم أولادها وأنجبت كثيرا ولم تكتف بطفل أو اثنين بحجة أن العدد الأقل يحصل على تعليم وتوجيه ورعاية أفضل، ولم ترفض العمل في المجتمع شريطة أن لا يتعارض مع الدور المركزي في الحياة وهو الأسرة، وأقرب نموذج يحطم الفكر النسوي الذي غزا عقول بناتنا هو السيدة الغزية الطبيبة آلاء النجار التي أنجبت عشرة أطفال استشهدوا جميعا مع زوجها ولم يبق لها سوى طفل واحد يعالج الآن في إيطاليا، طبيبة عاملة في وقت الحرب مربية لأولادها بهذا العدد مؤمنة راضية بقدر الله فيها، أين هذا النموذج أو القريب منه في واقع بناتنا ونسائنا في الغرب اليوم؟!!
ما واجبنا نحو غزة بعد الحرب؟
إن واجب المسلمين الأكبر في الغرب نحو أهل غزة بعد أن وضعت الحرب أوزارها هو الإغاثة العاجلة لاستعادة الحياة على أرض غزة الأبية، ولو أن كل أسرة أوروبية كفلت أسرة غزية، أو كفلت يتيما، أو بنت بيتا، أو بئرا للماء، أو غير ذلك من الحاجات الضرورية لأظهرنا بذلك أخوتنا الإنسانية والإسلامية وجبرنا النقص والتقصير الذي وقع منا أثناء الحرب، شريطة أن يتم ذلك عبر القنوات القانونية المسموح بها في ألمانيا.
اللهم كن لأهلنا وإخواننا في غزة سندا ومعينا ووليا ونصيرا،
وأدم عليهم نعمة الأمن والسلام، واحمهم من الفتنة والفرقة،
واربط على قلوبهم، وصبر مصابهم، وداو جريحهم،
واملأ العالم سلاماً وأمناً وعدلاً وحرية،
والحمد لله رب العالمين.