فقه إحياء الفريضة الغائبة
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 8 أغسطس 2025م
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فقد تحدثنا في الجمعة الماضية عن الفريضة الغائبة في عصرنا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمتمثل في إقامة العدل ومنع الظلم، تفاعلا مع ما يجري لأهلنا وإخواننا في غزة منذ قرابة العامين تحت سمع وبصر العالم، وذكرنا جملة من العواقب والآثار المترتبة على ترك هذه الفريضة المركزية في الإسلام، واليوم نتحدث عن فقه إحياء تلك الفريضة الغائبة، ليعرف كل مسلم موقعه منه ومسؤوليته عنه، ومؤاخذته وإثمه، وسبيل النجاة منه؛ لأن المخيف والمقلق هو أن تبلغ الأمة أو بعض أفرادها مع طول أمد الحرب حد التبلد أو التكيف مع الأحداث على بشاعتها ودمويتها وأن نفقد حتى مجرد الإنكار القلبي للظلم، ويمكننا إيجاز معالم فقه إحياء الفريضة الغائبة فيما يلي:
- الفريضة الغائبة بين الوجوب العيني والكفائي: اتفق العلماء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية على كل مستطيع، لقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]، وقال صلى الله عليه وسلم:” مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ” رواه مسلم، والأمر هنا يفيد الوجوب، ومعنى فرض الكفاية أي: إذا قام فريق من الأمة بإيقاف حصار غزة وتجويعها برئت ذمة الأمة كلها من العقوبة والإثم، وإذا قام هذا الفريق بجهده ومع ذلك لم ينفك الحصار أثمت الأمة كلها، وهو ما يقع الآن، وقد يتحول فرض الكفاية إلى فرض عين، إذا لم يقدر عليه سوى بعض الأفراد أو الجماعات الصغيرة في الأمة وعجز عنه الآخرون فيتحول في حقهم إلى فرض عين، ففرض الكفاية يدور مع تحقق القصد الشرعي منه ولا تبرأ الذمم بمجرد الفعل، فالدعوة إلى الله فرض كفاية ولكن إذا لم يتم البلاغ والبيان للإسلام بمن تصدر للدعوة إلى الله أثم الجميع، فالأمة كلها مسؤولة عن إيقاف الحصار والتجويع لغزة وأهلها، والنهي عن المنكر واجب على الفور لا التراخي، خاصة إذا كان التراخي يفوت المقصود منه، كحالة موت الناس جوعا فما قيمة إغاثتهم بعد موتهم.
- تعدد صور الإنكار اللساني للمنكر في عصرنا: حدَّد الحديث النبوي الشريف وسائل إنكار المنكر في اليد واللسان والقلب، وتغيير المنكر باليد في عالم اليوم الحديث وظيفة الحكومات والأنظمة وأجهزة الدول وجيوشها وليس فعل الأفراد غير محسوب العواقب والتبعات وكثير المفاسد والمضار، فبقي أمامنا تغيير المنكر باللسان، وصوره كثيرة جداً نظراً لتجدد وتطور الوسائل في عصرنا خاصة في أوروبا، وكم من وسائل وأفعال قام بها أفراد كانت سبباً في منع ظلم وإنقاذ أنفس، فاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي والتظاهر السلمي، والدعاء الضارع، وكل قول مسموع أو مرئي أو مكتوب يعرِّف بالقضية ويحرك الناس لها ويبقيها حية في حياتهم مهما صغُر قد يبرىء ذمتك أمام الله تعالى، والقول اللساني الشبكي الفردي إذا صار جماعياً ظهر أثره وعظُمت نتيجته.
- مفهوم الإنكار القلبي ومؤشراته: تتفاوت مراتب الإيمان قوة وضعفا حسب درجة إنكار المنكر، فمنكره باليد أعلاهم إيمانا، يليه منكره باللسان، يليه منكره بالقلب وهذا أضعفهم إيمانا، وفي بعض الروايات:” وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال ذرة” فماذا بقي من الإيمان لمن فقد مثقال ذرة منه؟!! وهناك صنف رابع يفهم ضمنا من الحديث وهو تارك الإنكار بالقلب فهذا عديم الإيمان بل ليس عنده من الإيمان مثقال ذرة، فما بالنا بمن يبرر الحصار والقتل والتجويع للنساء والأطفال أو يبرره، وسر تفاوت الإيمان وعلاقته بإنكار المنكر هو حجم الفعل ومقدار المخاطرة والتضحية، فالمنكر باليد مخاطرته أكبر وتضحيته أعظم فدافعه وهو الإيمان أعلى، والإنكار القلبي لا تضحية معه فهو أضعف الإيمان. وهناك حديث آخر مخيف أيضا وهو حديث العرس بن عميرة الكندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إذا عُمِلتِ الخطيئةُ في الأرضِ، كان من شهِدَها فكرِهَها كمن غاب عنها، و من غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها” أبو داوود بسند صحيح. فأنت مشارك إن لم تكره أكبر معصية وجرم جماعي يقع لأمة صغيرة مستضعفة في بقعة صغيرة من أرض الله اسمها غزة، وإنكار الظلم والقتل والتجويع بالقلب يأخذ صوراً كثيرة منها: بقاؤها حية في عقلك وفكرك، ومنها: حضورها في دعائك، ومنها: نفقتك المستدامة وإن قلَّت، ومنها: تحديث أولادك عنها، ومنها: تهممك الدائم بها، ومنها: اتهامك لنفسك بالتقصير نحوها، ومنها: نيتك أن تنحاز لكل عمل يرفع الظلم ويوقف الحصار والقتل، ومنها: بغضك وعدم موادتك للقتلة والمحاصرين والمطبعين، ومنها: استمرارك في المقاطعة الاقتصادية، ومنها: عدم تخذيل وتثبيط العاملين أو تحقير فعلهم.
- شرط عام في وسائل إحياء الفريضة الغائبة: لابد من التأكيد على أن إنكار المنكر باللسان والقلب خاصة بالنسبة لنا في أوروبا مقيدٌ بشروط أهمها: السليمة والقانونية والحضارية، ودائرة هذا المساحات واسعة جدا وغير مستثمرة بالقدر الكافي، وكل فعل غير سلمي أو غير قانوني في أوروبا لا يخدم القضية ولا ينصر أهل غزة بل قد يأتي بنتيجة عكسية، من فقه إنكار المنكر النظر إلى التبعات والمآلات وعدم فعل شيء لمنع الظلم يأتي بظلم أشد منه!!
اللهم فرج الكرب عن أمة حبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وكن لأهلنا وإخواننا في غزة، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، وعليك بمن ظلمهم وحاصرهم وجوعهم، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.