إرسل فتوى

شِعارُ المسلم في الغرب

شِعارُ المسلم في الغرب546ec4e64b3d31960295699

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون . ألمانيا 13 يونيو 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فقد كان بعض العلماء والصالحين يتخذون آية من القرآن الكريم شعاراً لهم في حياتهم بحسب حالهم وزمانهم؛ لتذكيرهم إذا نسوا، وتنبيههم إذا غفلوا، وليبقى القرآن حياً حاضراً فاعلاً في حياتهم، فهذا عالِمُ عاش في حقبة زمنية كثر فيها الظلم والطغيان والاستبداد كتلك المرحلة التي نحياها الآن، وبرز فيها حملة المباخر وعلماء السلاطين الذين يبررون للطغاة أفعالهم ويضفون عليها حكمة وشرعية فيزدادون بها طغياناً وإفساداً في الأرض، لمـــَّا وجد هذا العالم هذا الحال خشي على نفسه فاتخذ هذه الآية شعاراً له: ﴿رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ﴾ [القصص: 17]، وتفكرتُ طويلاً ما هي الآية التي تصلح أن تكون شعاراً للمسلم الذي يعيش في الغرب فوجدتُ قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف: 170] هي أنسب آية تصلح أن تكون شعاراً للمسلم في الغرب؛ وذلك لأسباب: الأول: أنها جمعت بين واجبين من أهم واجبات المسلم في الغرب وهما: استمساكه بالإسلام ودعوة غيره إليه؛ فمعنى يمسِّكون بالتشديد أي يتمسك هو ثم يتسبب في إمساك غيره بالكتاب، والتمسيك بالتشديد أيضا فيه معنى المدافعة والتدافع كأن هناك من يريد انتزاع الكتاب والهدى منك وأنت تدافعه وتتمسك به، والثاني: أنها دلت بإيجاز على سبيل الفلاح والاستقامة والثبات على الدين بأمرين لا ثالث لهما وهما: تلاوة القرآن، وإقامة الصلاة، فالآية تجيب على أهم إشكالية تؤرق المسلمين في الغرب وتجيب على السؤال الأبرز والأعظم في حياتهم وهو: كيف السبيل للحفاظ على الدين والتدين في الغرب والنجاة بأولادنا؟ والثالث: أنها وجَّهت إلى الجمع بين الصلاح والإصلاح فختمت الآية بقوله تعالى: لا نضيع أجر المصلحين، ولم يقل الصالحين؛ لأن الصالح صالح في نفسه ولا شأن له بغيره، وأما المصلح فأصلح نفسه وانتقل إلى إصلاح المجتمع والناس، وهذا ما يجب أن يكون عليه المسلم في الغرب من الجمع بين صلاحه واستقامته وبين دوره الإصلاحي والرسالي في المجتمع.

وقد تتبعت المواضع التي جُمع فيها بين تلاوة الكتاب وإقامة الصلاة في القرآن الكريم فوجدتها صريحة وغير صريحة قرابة العشرة كما في آية سورة الأعراف التي ذكرناها آنفا، وكما في قوله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] ، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر: 29]، وقوله تعالى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آل عمران: 113] ، وقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: 78] ، وقوله تعالى: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [المزمل: 20]، والمفاهيم والمعاني التي تتكرر في القرآن الكريم يجب مضاعفة التوقف عندها والتأمل في كيفية تنزيلها والتحقق بها عمليا خاصة وأنها محدودة معدودة ملخصة في أمرين اثنين لا ثالث لهما، وهو ما نوجز الحديث عنه في النقاط التالية:

  1. تلاوة الكتاب تفعيلا وتنزيلاً: المسلمون في الغرب بحاجة إلى مراجعة حالهم وحال أولادهم مع القرآن؛ لأن القرآن هو وسيلة الثبات الأولى على الدين مع تضاعف الخطر على الدين في الغرب قال تعالى: ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 102]، ولأن القرآن هو وسيلة التعريف الأدق والأحكم للإسلام في الغرب قال تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ [يونس: 39]، وهذا يعني أنه لو وقع لهم تأويله على النحو الصحيح لما كذبوا به، فنحن بحاجة إلى مضاعفة العناية بالقرآن الكريم حفظا وتلاوة وأورادا وتدبرا وعملا وتجاوزا لحالة الغفلة عنه أو هجرانه بأي صيغة من صيغ الهجر والجفاء، خاصة بحق الجيل الجديد من أولاد المسلمين في الغرب الذين صرفهم عن القرآن ضعف لغتهم العربية، أو كثرة واجباتهم وأعبائهم الدراسية والعملية، أو غياب القدوة من الأبوين، أو الغفلة عن تنشئة الأولاد على حب القرآن والشغف به منذ الصغر. القرآن والعلاقة الحسنة معه هي الرصيد الذي يرد الأبناء إلى طريق الهداية والاستقامة إن شردوا.
  2. حديث استشرافي جامع: عن خويلد بن عمرو قال: خرَج علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أبشِروا وأبشِروا أليس تشهَدونَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنِّي رسولُ اللهِ ؟ قالوا: نَعم، قال: فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ  طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا . ابن حبان بسند صحيح. ومعنى أن القرآن سبب أي حبلٌ، والحديث كأنه رسالة للمسلمين في الغرب أن التمسك بالقرآن يضمن لهم ولأولادهم الهداية والاستقامة مهما تعددت أسباب الغواية وهو معنى فإنكم لن تضلوا، ويضمن لهم الحفاظ على الهوية وعدم الانقراض أو الذوبان وذهاب الأثر والريح وهو معنى قوله: ولن تهلكوا أي لن تنقرضوا أو ينقطع أثركم. وقد أدرك المسلمون في البوسنة والهرسك هذا المعنى أثناء حرب الصرب ضدهم فتمسكوا بالقرآن وحفظوه في الخنادق وفي السجون حتى مع عدم وجود مصاحف بأيديهم فكانوا يتناقلون الآيات شفويا من بعضهم؛ لأنهم يعلمون أن القرآن مصدر الثبات وحفظ بيضتهم وليبقى فيهم من يحفظ القرآن مهما أخذت الحرب منهم.
  3. إقامة الصلاة في السياق الأوروبي: الصلاة أهم ركن من أركان الإسلام بعد التوحيد، وهو الركن الوحيد الذي فُرض في السماء، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، وهي الفريضة الوحيدة التي تتكرر في اليوم خمس مرات؛ لتبقى النفس إما متصلة بالله أو متهيأة لتتصل، والصلاة لا يعذر أحد في تركها مهما وقع له من أعذار فيصلي حسبما تيسر له من حال يناسب صحته ووقته قائما فقاعدا فعلى جنب فإيماء بعينه، وهي آخر وصية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم” فهل نحن في الغرب وعينا لقيمة وأهمية ومركزية الصلاة في حياتنا وحياة أولادنا فربيناهم على تعظيم أمرها منذ الصغر وأنها معظمة مقدسة وخط أحمر لا يجوز التهاون فيه أو عدم الانتظام في أدائه؟! وهل المؤسسات الممثلة للمسلمين في الغرب وعت لقيمة الصلاة فكان من أولوياتها تمكين الطلاب والعمال المسلمين من أداء صلاة الجمعة على الأقل مع تعويض ساعة الانقطاع عن العمل فيها بعمل مضاعف؟! وهل قامت المؤسسات الإمامية والدعوية بحملات توعوية لإرشاد من لا يصلي إلى الصلاة؟ وهل نسبة المصلين في ازدياد أم في تراجع؟
  4. أهل غزة وسر ثباتهم وصبرهم: إن الثبات والصبر الأسطوري الذي نشاهده على أرض غزة الأبية الطاهرة مرجعه إلى تمسكهم بالأمرين: القرآن والصلاة؛ فقبل وأثناء الحرب ازداد عدد الحفظة والمجازين في القرآن من أهل غزة، وانتشرت مجالس سرد القرآن في جلسة واحدة، كما امتلأت المساجد بالمصلين، وأقاموا الصلاة تحت أنقاض الأبنية، ولما سرت الهدنة كان أول ما فعلوه بناء المساجد من الخيام وإقامة الصلاة.

 

اللهم حبب إلينا وإلى أولادنا الإيمان والصلاة والقرآن وزينها في قلوبنا وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا وإياهم من الراشدين، اللهم فرج الكرب واوقف الحرب عن أهلنا وإخواننا في غزة وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا. والحمد لله رب العالمين.

 

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80