إرسل فتوى

سُنَّةُ بقاءِ الحقِّ

سُنَّةُ بقاءِ الحقِّ22-quran-sunnah-supplications

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون ألمانيا 2 مايو 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فإننا في هذه المرحلة الدقيقة والعصيبة من تاريخ وعمر أمتنا المجيد أحوج ما نكون إلى العناية بدراسة السنن والقوانين الإلهية الثابتة والمطردة التي تحدث عنها القرآن الكريم طويلاً وأمرنا أن نفهم هذه السنن وأن نتدارسها وأن نقرأ الأحداث في ضوئها إن أردنا فهمها وإدراك المسار الصحيح للعمل والنهوض الحضاري؛ قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران: 137]، ودراسة السنن من خلال القرآن الكريم تجعلنا نقف على أسباب سقوط الحضارات الظالمة مهما بلغت من أسباب القوة المادية، وأن لا ييأس المسلم أو يفقد الأمل إذا طال الزمن على استمرار القمع والظلم والتمكين الواقع لحضارات البغي وسفك الدماء ونهب الثروات، ففي ظل اشتداد الصراع بين دولة الإسلام الناشئة الضعيفة وبين الساعين لاستئصالها ومحوها من الوجود من مشركي قريش نزل قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: 13] ، والسبب في انطباق هذا القانون المطرد على كفار قريش هو ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 11]، ودراسة السنن يدفع أهل الحق للتضحية وبذل ما يستطيعون في مواجهة الباطل وحزبه، وهي كفيلة بمحو آثار اليأس والإحباط مهما عز النصير أو قلَّ المعين، وبدا أن النصر بعيد عزيز المنال، وكلما علا الباطل وارتفع صوته أيقن المسلم من خلال معرفته بالسنن أنه إلى نقصان وزوال، ومهما كانت نبتة الحق صغيرة ضعيفة فسرعان ما ستنمو وتزهر وتثمر، كالهلال حين يبدو صغيرا لا يكاد يلحظه الرائي وسرعان ما يصير بدرا منيرا يضئ دروب السالكين.

ومن السنن القرآنية المهمة واجبة الدراسة اليوم سنة بقاء الحق؛ وفحواها أن يظل الحق والباطل في تدافع وصراع وينوع الباطل أساليب المدافعة للقضاء على مشروع أهل الحق وإسكات صوتهم، وفي نهاية المطاف يلجأ إلى الاستئصال الكامل وإخراج أهل الحق من المشهد وهنا تعمل السنن وتكون هذه اللحظة الفارقة هي لحظة ظهور أهل الحق وانطفاء جذوة أهل الباطل، ويمكننا عرض نماذج قرآنية لبيان سنة بقاء الحق كما يلي:  

  1. كفار مكة يستعجلون السنن: تدارس كفار مكة خيارات القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وانتهوا إلى السجن أو القتل أو الإخراج من مكة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]، ولكنهم قرروا في دار الندوة التخلص من النبي صلى الله عليه وسلم بالقتل، فأعلمه الله بمكرهم وخرج من مكة مهاجرا وهنا عملت سنة بقاء الحق فبشره الله تعالى وهو في طريق هجرته أنه سيعود إلى وطنه فاتحا فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﴾ [القصص: 85]، وعاد إلى مكة فاتحا بعد ثماني سنوات فقط قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 76]، وهذه الآيات تقرر هذه السنة بجلاء قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [إبراهيم: 13-15].
  2. فاعلية السنن في قصص الأنبياء: لم يختلف الأمر كثيرا في قصص الأنبياء السابقين على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في سنة الطرد والإخراج والاستئصال ثم بقاء الحق وهلاك المعاندين الجاحدين من أقوامهم كما في قصة لوط عليه السلام قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأعراف: 82-84] ، وكذلك قوم شعيب قال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴾ [الأعراف: 88] فالتهجير والطرد والإخراج الذي نشاهده الآن في مشهد غزة تكرر سابقا في تاريخ الأنبياء لكن العاقبة كانت بقاء الحق واستعجال الهلاك بالتهجير والطرد قال تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 91].  
  3. قصة أصحاب القرية: يحدثنا القرآن الكريم في سورة ياسين عن أصحاب القرية الذين أرسل الله إليهم رسولين فكذبوهما فأرسل الله إليهم رسولا ثالثا لكنهم عاندوا وكذبوا وهددوا الرسل بالقتل قائلين: ﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [يس: 18] وهنا جاء رجل من أقصى المدينة يسعى بحب وشفقة عليهم يدعوهم إلى الله فقتلوه، وهنا أيضا عملت سنة بقاء الحق بعد أن ظنوا أنهم في قمة الجبروت والقوة؛ قال تعالى: ٍ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴾ [يس: 28-29] .
  4. التطهير العرقي والتهجير لأهل غزة وحركية السنن: وتطبيق سنة بقاء الحق على ما يجري في غزة من إبادة جماعية وتطهير عرقي وحصار منظم ومنع للغذاء والدواء من الوصول إليهم تحت سمع العالم وبصره، لهو مؤذن بظهور سنة بقاء الحق وأُفول حضارات البغي والظلم المعاصر في أجل يعلمه الله وحده، شريطة أن يبحث كل مسلم حر عن دور له في نصرة المظلومين والمستضعفين والانحياز لأهل الحق بما يدخل تحت وسعه وقدرته، وتلك السنة تجلَّت وظهرت بغتة في سوريا بعد أن يئس الناس وقطعوا الأمل رغم عظم وضخامة التضحيات لنيل التحرر من الاستبداد والطغيان هنا عملت سنة بقاء الحق وتحررت سوريا من حقبة ظلم وقتل وفساد لعلها الأظلم والأقسى في التاريخ الحديث.
  5. ضرورة العمل على تجفيف منابع الكراهية والعنصرية: لقد فُجعنا جميعا بخبر مقتل شاب مسلم قبل أيام في أحد المساجد بفرنسا وهو ساجد آمن يصلي لله تعالى حيث طُعن بخمسين طعنة بالسكين على يد متطرف فرنسي، وهذه الجريمة الفظيعة المدانة قطعا تدق ناقوس الخطر وتنبه إلى خطر الصمت على جرائم الكراهية والعنصرية ضد المسلمين المتنامية والمتصاعدة في السنوات الأخيرة، وتوجب على صناع القرار والساسة والإعلاميين تجفيف منابع الكراهية والعنصرية البغيضة وتجنب الكيل بمكيالين في التعامل مع الكراهية والعنصرية إذا نزلت بالمسلمين مقارنة بغيرهم، وندعو الله تعالى أن يرحم المسلم المغدور به في بيت من بيوت الله وأن يصبر أهله، وأن يحفظ المسلمين في أوروبا من كل شر، وأن يمن علينا وعلى هذه البلاد بالأمن والسلام، وأن يعجل بتفريج الكرب وإيقاف الحرب على أهلنا وإخواننا في غزة، وأن يحفظ الشام وأهله والسودان وشعبه من كيد الكائدين ومكر الماكرين، والحمد لله رب العالمين.  
د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80