إرسل فتوى

رسائل في ختام شهر رمضان

رسائل في ختام شهر رمضان AdobeStock_281419725-scaled-1-1024x576

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 28 مارس 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فحسب إعلان المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ومقررات المؤتمرات العالمية والمجامع الفقهية وأهمها: مؤتمر إسطنبول 1978م، ومؤتمر إسطنبول 2016م فإن أول أيام عيد الفطر المبارك إن شاء الله في ألمانيا وأوروبا الأحد بعد غد؛ وذلك عملا بمبدأ وحدة المطالع إذا أمكن رؤية الهلال بالعين أو التلسكوب في أي مكان بالعالم ثبت دخول الشهر، ويتوقع وقوع انقسام في إعلان العيد في المنطقة العربية والعالم الإسلامي بين دول ستعيد الأحد وأخرى ستعيد الاثنين، والمسلم في ألمانيا وأوروبا عليه أن يتبع قرار مرجعيته الإفتائية المحلية ولا ينظر إلى دول أو مؤسسات أخرى جمعاً للكلمة وتوحيداً للصف وتحقيقاً لمصالح المسلمين، وهذا القرار مبني على أصول شرعية وعلمية صحيحة بفضل الله.

أيها الإخوة الكرام … هذه الليلة هي آخر ليلة في شهر رمضان فهي خاتمته وقد اجتمع فيها ما تفرق في غيرها؛ فهي ليلة وترية، وهي آخر ليلة وآخر تراويح في رمضان، وقد صح في فضلها حديثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول: “هي في العَشْرِ الأواخِرِ، هي في تِسْعٍ يَمْضِينَ، أوْ في سَبْعٍ يَبْقَيْنَ يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ” البخاري. قال ابن حجر: أي التاسعة والعشرين أو الثالثة والعشرين، والثاني: “التمسوها آخر ليلة من رمضان” ابن خزيمة بسند صحيح. والعبرة بكمال النهايات لا بنقصان البدايات، ومعلوم أن الخيل إذا شارفت على نهاية السباق جدت السير واستجمعت الهمة الكاملة لتفوز بالسباق فلا تكن الخيل أعقل منك!

أيها الأخوة ونحن نودع رمضان وفي الليلة الأخيرة من لياليه المباركة نستذكر ونذكر برسائل الخواتيم وهي:

  1. سرعة انقضاء الأعمار وضرورة اغتنامها: انقضى رمضان سريعا ومثلما انقضى ستنقضي أعمارنا ورصيدنا الممنوح لنا من المولى الجليل سبحانه وتعالى، وكما عمَّر كثيرون منا رمضان بالأعمال الصالحة ففازوا فيه عمر كثيرون أعمارهم بالأعمال الصالحة التي ستنير قبورهم بعد موتهم، وكما فرَّط آخرون في رمضان فكانوا فيه من المحرومين المضيعين لنفحاته وبركاته أو من المسيئين المذنبين، فرَّط أولئك في أعمارهم فأضاعوها فيما لا يرضي الله، والرسالة أيها الأخوة أن نغتنم ما بقي من أعمارنا كما اغتنمنا رمضان فإن الموت يأتي بغتة والدنيا مهما تخيلنا بقاءنا فيها طويل هو في الحقيقة قصير جدا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” مالي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها” أحمد، والترمذي بسند حسن.
  2. الأعمال بالخواتيم: من الأدعية المأثورة: “اللهم اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم أن ألقاك” والليلة هي ختام رمضان فلنحسن توديعه لعل قوائم العتقاء تكتب أو تكتمل فيها فلا تكونن فيها من المحرومين، والعجيب أن ناسا كثر من المسلمين يغفلون عن هذه الليلة لأنهم اجتهدوا ليلة السابع والعشرين من رمضان، وهو حرمان من الخواتيم الحسنة، والمشغول بالختام الحسن لرمضان سينشغل قطعا بالخاتمة الحسنة لعمره، وأشد ما يخوف العبد سوء الخاتمة؛ بَكَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ: كُلُّ هَذَا خَوْفًا مِنَ الذُّنُوبِ؟، فَأَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ: “الذُّنُوبُ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَبْكِي مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ”.. ومن ذاق حقا حلاوة العبادة في رمضان لن يتركها في الليالي والساعات الأخيرة منه بل حتى بعد انقضائه.   
  3. اصنع لنفسك خاتمة حسنة: إن خوف الخاتمة قطع ظهور المتقين كما يقول ابن القيم، والمسلم لابد أن ينشغل بأمر خاتمته وحسن ختمه لرمضان بالطاعة علامة على حسن ختام عمره بالطاعة، والسبيل إلى حسن الخاتمة هو إصلاح السر الذي تعلمناه من رمضان، يقول ابن رجب: “خاتمة السوء تكون بسبب دسيسةٍ باطنة بين العبد وربه” وكما أن من علامات حسن الخاتمة التوفيق لعمل صالح قبل الموت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله” قالوا: كيف يستعمله؟ قال: “يوفقه لعمل صالح قبل موته” أحمد والترمذي بسند صحيح. كذلك من حسن خاتمة رمضان أن يستمر السباق والاجتهاد إلى آخر ساعاته. وقاعدة حسن الخاتمة قوله صلى الله عليه وسلم: ” من مات على شيء بعثه الله عليه” رواه مسلم. فعش على الطاعة التي تحب أن يبعثك الله عليها.  
  4. سل الله القبول وابحث عن علاماته: إن ما يجب أن ننشغل به في الساعات الأخيرة من رمضان هو سؤال الله القبول والخوف من ذهاب أجر الطاعة بسبب شهوة خفية من رياء أو غرور أو عجب، وقد كان دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام بعد إتمام عمله: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 127]، وعن أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنه أنها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 60] أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيُصَلِّي وَيَتَصَدَّقُ وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ. أحمد والحاكم بسند صحيح. وقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: “إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ السَّيِّئَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ ” فالطاعة التي تورث العلو والاستكبار والعجب تدخل صاحبها النار، والمعصية التي تورث الذل والانكسار والندم تدخل صاحبها الجنة، فعلينا أن نستودع طاعتنا في رمضان وأن نخاف من عدم قبولها، ومن علامات القبول أن تستمر على الطاعة بعد الطاعة قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وفرج الكرب عن أهلنا في غزة، ووحد صفوفنا وألف بين قلوبنا، والحمد لله رب العالمين.  

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80