هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا. 19 يوليو 2024م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فالهجرة حدثٌ من أهم أحداث السيرة النبوية، وفي شهر الله المحرم لابد من تذكر الهجرة والوقوف مع دروسها ورسائلها خاصة للمسلمين في الغرب الذين تشكل وجودهم بشكل رئيس وتأثر وتفاعل ولا يزال بسبب الهجرات القديمة والحديثة، وكثيراً ما أَكدتُ على ضرورة استثمار المناسبات والأحداث الدينية لترسيخ ودعم أمر الهوية خاصة بحق الأجيال الجديدة، وتمر بنا ذكرى الهجرة هذا العام وجرحنا النازف في غزة مستمر، بعد مرور عيدى الفطر والأضحى مع استمرار الحرب والقتل والإبادة للنساء والأطفال والمدنيين، والتدمير للإنسان والبنيان في ظل صمت عربي وتأييد عالمي، وخذلان وتكيّف إنساني، فالكارثة الإنسانية في غزة قد جاوزت كل حد وفاقت كل تصور، والناس يموتون جوعا ولا يجدون حتى أوراق الشجر لإطعام أطفالهم إياها، ومن أهم رسائل الهجرة للمسلمين في الغرب ما يلي:
1-المدافعة الحكيمة لتوطين الدعوة قبل الهجرة:
مع تضاعف تحديات الالتزام بالدين في أوروبا يتجه بعض المسلمين إلى التفكير في الهجرة وتغيير المكان، وهو توجه يضر بالمكون الأوروبي المسلم ويضاعف التحديات أمامه ولا ينطلق من رؤية صحيحة لرسالة المسلم في الكون، والمنهج الأصح هو اتخاذ أوروبا وطناً ومواجهة التحديات بحكمة وجماعية والاستفادة من تجارب السابقين من الموفقين في الثبات مع أولادهم على الدين، وعدم تقرير الهجرة وتغيير المكان إلا إذا تعينت الهجرة سبيلاً وحيداً لحفظ الدين والهوية وهذا هو ما نتعلمه من هجرة الأنبياء جميعاً؛ فالأنبياء صبروا على قومهم وصابروا في دعوتهم إلى الله لكن أقوامهم ضاقوا بهم وأخرجوهم من أوطانهم، وهو المعنى الذي عبر عنه ورقة بن نوفل عندما قال جواباً عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم له: أوَ مخرجي هم؟ قال ورقة: “ما من نبي إلا أخرجه قومه”
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ [إبراهيم: 13]
وفي قصة لوط قال تعالى:” ﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ﴾ [الشعراء: 167]
وفي قصة شعيب عليه السلام:” ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [الأعراف: 88]
وقد تعجل سيدنا يونس عليه السلام الهجرة وترك قومه بعد أن صدوه وأعرضوا عنه فالتقمه الحوت ونجاه الله منه بالتسبيح والذكر.
وقال الله تعالى عن هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30 ]
ونبينا صلى الله عليه وسلم لم يهاجر إلا بعد ثلاثة عشر عاماً من المدافعة والبلاغ والبيان والصبر على الأذى وهجرات الأنبياء هذه تبين البعد الرسالي للمسلم في الحياة، وهو ما يظهر حين جاء ملك الجبال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد إعراض قومه عنه قائلاً: لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت. قال: لا، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً. هذه المدافعة الحكيمة والصبر على الأذى يجب أن يستمر كما فعل الأنبياء جميعا وأن لا نتعجل الهجرة وتغيير المكان بالنظرة الجزئية الفردية القاصرة وتغييب الرؤية الكلية الرسالية العامة للمسلم في الكون والحياة.
2-تصحيح الهجرة لتكون لله:
هاجر كثير من المسلمين إلى أوروبا لأسباب دنيوية لا صلة لها بالدين كالعلم، والأمان، والمال، والسلامة والأمن، وهي مقاصد مشروعة؛ لكن الثواب والأجر لا يتم إلا إذا كانت الهجرة بحق لله، فلابد من مراجعة النية وتصحيح مسار الهجرة وأن تكون هجرتنا بحق لله، وآية ذلك أن نحافظ على ديننا وهويتنا وأن نكون على حذر من ضياع دين الجيل الجديد أو ضعفه، وأن يظهر الدور الدعوي لهجرتنا.
ولا حرج أن تكون لنا مقاصد دنيوية من الهجرة شريطة أن يكون المولى الجليل ورضاه وطاعته هي المقدمة وغيرها تابع أو فرع عنها، والمتأمل للقرآن الكريم يلحظ أن كل المواضع التي ذكر فيها الهجرة رُبط الأجر والثواب فيها بأن تكون لله قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 41]
لكن العجيب أن الموضع الوحيد في القرآن الذي ذكر فيه النعيم المقيم كان في الحديث عن ثواب المهاجرين بينما تكرر العذاب المقيم كثيرا؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [20] ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ﴾ [التوبة: 21]، وفي هذا إشارة إلى أن من هاجر لله وثبت على الدين وصبر على مفارقة أحبابه في وطنه، وحُرم نعمة الإقامة بينهم جزاؤه النعيم المقيم في الجنة.
3-التوطين لا يعني الانقطاع عن الوطن الأصلي أو عدم التفاعل مع قضايا الأمة:
فبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة وحبه لها وتعلقه بها لم ينقطع عن مكة وبشَّره ربه بالعودة إليها فاتحاً؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص: 85]، وسيدنا يوسف عليه السلام عندما هاجر خارج وطنه لم ينقطع عن أهله وإخوته، وكذا من هاجر من الصحابة إلى الحبشة ظلوا في متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وعادوا إلى المدينة عندما أمرهم، وهكذا المسلم الأوروبي يجب أن لا ينقطع عن أمته وقضاياها وقضايا وطنه الذي هاجر منه، وأهم مؤشر ومعيار على وضوح التوازن بين وطن الهجرة وقضايا الأمة هو التفاعل مع أحداث غزة ونصرتها بما لا يعارض القوانين والنظم.
4-أهمية الصحبة الصالحة في الثبات على الدين:
فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم رفيقاً وصاحباً صادقاً ووفياً في الهجرة وهو الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وهذا يعني أهمية الصحبة الصالحة لنا ولأولادنا في الغرب لنصل إلى الثبات على الدين والنجاة بأولادنا كما نجا النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وبلغا قصدهما بالوصول إلى المدينة المنورة.
اللهم ارزقنا هجرة من المعصية إلى الطاعة، ومن الفرقة إلى الجماعة، ومن الانكسار والخذلان إلى الانتصار والإيمان، اللهم فرج الكرب عن أهلنا في غزة وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والحمد لله رب العالمين.