دروس في حفظ الدين على الذرية من قصة إبراهيم عليه السلام 
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فإن الهم الأكبر الذي يحمله كل مسلم قدَّر الله له أن يعيش في الغرب هو الخوف على ذريته وأولاده من أن يضيع دينهم، أو أن تنقطع كلمة التوحيد من نسله وأحفاده؛ لهذا يفكر بعض المسلمين في الهجرة وتغيير المكان فراراً بالدين وطلبا للسلامة بذريته ومن ولي أمرهم، وهو أمر يستحق الخوف والقلق والبحث عن أسباب السلامة والثبات على الدين بحق الذراري والأحفاد، ويجب أن يتهمم كل مسلم يعيش في الغرب بهذا الأمر لأنه مسؤول عن ذريته وأولاده قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، ولا يصح أن يطمئن المسلم في الغرب على الالتزام الديني للأجيال الجديدة لمجرد رؤية أعداد كبيرة من الشباب في المساجد في رمضان، أو رؤية بعض الأوروبيين يعتنقون الإسلام وينطقون بالشهادتين في المساجد، فالواقع أن شرائح من الجيل الجديد تخرج من الإسلام أو تترك الالتزام بتعاليمه فعلا وتركا، والهجرة وتغيير المكان ليست حلولا عملية وهي تضر بالمكون المسلم في الغرب وبأبعاده الرسالية خاصة مع تشابه الأماكن في العالم الجديد وتناقل الشبهات والشهوات بالوسائل الحديثة، وفي يوم عيد الأضحى المبارك نذكر نبينا إبراهيم عليه السلام وكيف وصل قمة النجاح مع ولده إسماعيل في الثبات على الدين والاستسلام والانقياد لأمر الله فقال لأبيه عندما أخبره برؤيا ذبحه: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات: 102]، وهو أمل كل مسلم مع أولاده، وهذه جملة من الدروس والرسائل التربوية من قصة إبراهيم عليه السلام مع ولده للمسلمين في الغرب:
- حسن اختيار الزوجة: صلاح الذرية والأبناء يبدأ من حسن اختيار الزوجة الصالحة؛ فتأمل قول هاجر عليها السلام لزوجها عندما تركها بواد غير ذي زرع: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. فهي زوجة متوكلة على الله مؤمنة به مطيعة لزوجها صابرة على ما تلقى في طريقها إلى الله، وطبيعي أن يستسلم ولدها لأمر الله كما استسلمت هي من قبل، وهذه رسالة مهمة للشباب المسلم في الغرب أن يحسن اختيار الزوجة التي تعينه على حفظ الدين بحقه وحق أولاده، وأن يركز على معيار الدين وأن يتجنب الزواج من غير المسلمات؛ لأنه وإن كان مباحا بشروطه إلا أنه يشكل خطرا على دين الذرية وفرص التوافق ونجاح الزواج تكون أقل منه في حالة اختيار صاحبة الدين من المسلمات.
- الدعاء المستدام: دعا إبراهيم عليه السلام ربه كثيرا في مختلف المراحل أن يُرزق بالولد الصالح فكان من دعائه قبل أن يولد، ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات: 100-101]، ومن دعائه أيضاً ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35]، ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾ [إبراهيم: 40]، ومن دعائه ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ [إبراهيم: 37] فالدعاء من أهم أسباب صلاح الذرية واستقامتهم على الدين ومن أهم ما يغفل المسلمون عنه، فأكثروا من الدعاء لأولادكم دعاء المضطر المفتقر قبل ولادتهم وفي صغرهم وكبرهم، إن استقاموا أن يزدادوا استقامة وإن ضلوا أن يردهم الله إليه ردا جميلاً.
- التربية بالحب والمصاحبة: لقد غمر إبراهيم عليه السلام ولده بالحب والقرب والدخول في أعماقه ومعرفة شخصيته وتفكيره فسهل عليه أن يخبره بأقسى وأخطر خبر على قلبه وقلب ولده وهو أنه مأمور من ربه بذبحه!! ومن الأخطاء التربوية التي يقع فيها الآباء اليوم خاصة في الغرب عدم التركيز على قضية المشاعر والمحبة لأولادهم وإدراك أن رصيد المحبة هو الذي يسهل الاستجابة للأوامر والتوجيهات التربوية مهما كانت ثقيلة على الأبناء مضادة لأهوائهم، وكذلك أن تقيم صحبة وصداقة مع أولادك حتى يخبروك بمكنوناتهم ومشاكلهم فتكون عونا لهم على حلها قبل تتفاقم وتكبر.
- الحوار والتشاور قبل الأمر والتصادم: يلاحظ أن إبراهيم عليه السلام لم يقل لولده قد صدر الأمر من الله بذبحك ولا يمكنني مخالفته وعليك أن تمتثل دون تردد، وإنما قدم له الأمر في صورة مشاورة معه ويريد أن يعرف رأيه ويترك القرار له فقال له: ﴿قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ﴾ [الصافات: 102]، فمشاورته منهج في التربية يسهل الامتثال على الأبناء بعد أن نشرح لهم حيثيات القرار، وهذه منهجية تربوية مهمة مهما صغر عمر الأبناء وهي تعطي لرأيهم قيمة وتحمسهم للفعل وعدم المخالفة؛ فإبراهيم عليه السلام كان يعلم يقينا أن ولده لن يعارض أمر الله بذبحه ومع ذلك قدم له الأمر في صورة التشاور والحوار، ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى الحوار مع الأبناء بعد أن ضعف أو فقد بسبب وسائل التواصل الاجتماعي.
- ربط الأبناء بالمساجد: فسيدنا إبراهيم عليه السلام لم يكن يذهب إلى المسجد وحده أو ينفرد بالدعاء دون ولده (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )البقرة: 127، واصطحاب الأبناء للمساجد في الغرب من أهم الواجبات التربوية لتثبيتهم على الدين، وعلينا أن نجعل نظام حياتنا واختيارنا للسكن يسهل الاتصال بالمساجد وحضور الجمع والجماعات وإلا فقدنا بابا من أهم أبواب التثبيت على الدين والاستقامة على الطاعة.
اللهم حبب إلينا وإلى أولادنا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا وإياهم من الراشدين، اللهم فرج الكرب وأوقف الحرب عن أهلنا وإخواننا في غزة، وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، والحمد لله رب العالمين.