إرسل فتوى

خذلان المستضعفين وعواقبه

خذلان المستضعفين وعواقبه

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا. 10 يناير 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فقد ألِفَ الناس رؤية الدماء والأشلاء لغزة وأطفالها ونسائها، ولم يوقظهم صراخ الأطفال جوعا وبردا وألما لعدم وجود أدوية تسكن جروحهم، والمجازر والمذابح لم تتوقف يوما منذ أكثر من عام، حتى بلغت حصيلة القتلى والشهداء قرابة 50 ألفا، وقرابة 110 ألف مصاب تحت سمع العالم وبصره، الإسلامي منه والعربي والغربي، وبخل الناس على غزة وأهلها عن مجرد الإنكار القلبي، والدعاء اللساني، ومتابعة الأخبار.

وطغت أخبار سوريا وتحريرها على غزة وجراحها، وهذا الخذلان للمستضعفين والمظلومين أفرادا كانوا أو جماعات نذير شؤم على الأمة كلها، وعاقبته إلى شر مستطير واستبدال في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، والخذلان هو ترك نصرة المظلوم وإسلامه لعدوه وظالمه رغم استغاثته والعلم يما يقع له والقدرة على دفع الظلم والعدوان عنه، وخذلان المستضعفين والتقاعس عن نصرتهم يؤدي إلى الفتنة والفساد في الأمة قال تعالى: ﴿وَإِنِ ‌اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 72-73] 

أي: إن لم تقوموا بواجبكم في النصرة والإغاثة للمستضعفين وقعت الفتنة والفساد في الأرض بضعف الإسلام وعلو الطغيان، وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:” المُسلِمُ أخو المسلِمِ، لا يَظلِمُه ولا يَخذُلُه ولا يَحقِرُه” مسلم في صحيحه. والنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر الخذلان للمستضعفين مقدمة للأفول الحضاري وذهاب الريح وزوال الأمم فيقول:”

كيفَ يُقَدِّسُ اللهُ أمَّةً لا يُؤخَذُ لضَعيفِهم من شَديدِهم؟!” ابن ماجة بسند صحيح.

والإسلام يوجب على المسلم الوقوف مع أخيه المسلم إذا نزل به ضر أو وقع عليه ظلم، فإن خذله أصابت اللعنة الجميع فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما فإن اللعنة تنزل على من حضر إذا لم يدفعوا عنه” الطبراني بإسناد حسن. ونصرة المظلوم من أسباب التثبيت والثبات يوم القيامة؛ فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من مشى مع مظلومٍ حتى يُثْبِتَ له حقَّه ؛ ثبَّت اللهُ قدمَيه على الصِّراطِ يومَ تزولُ الأقدامُ” البخاري. والمسلمون في أوروبا لديهم سعة أكثر من غيرهم في نصرة المستضعفين وهم في نعمة يجب عليهم شكرها، وشكرها بالإغاثة والنصرة لكل مظلوم عند القدرة عليها وإلا فالنعمة يمكن أن تسلب منهم؛ فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد، يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم، فحولها إلى غيرهم.الطبراني بسند حسن.

إن خذلان المستضعفين كبيرة من الكبائر تستوجب التوبة الجماعية الصادقة منها، والإقلاع عن الخذلان إلى النصرة وفق المتاح والمباح، وهناك حديث يرعبني كلما تذكرته منذ وقوع أحداث غزة ورؤية أفراد من أمتنا يتعرضون للظلم والقهر وهو قوله صلى الله عليه وسلم:” ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه، وما من أحدٍ ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا نصره اللهُ في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه” صحيح الجامع. فمن منا يحب أن يخذله الله في موطن يحب فيه نصرته؟!

والخروج من حالة الخذلان العام في الأمة للمستضعفين إلى المعونة والنصرة يكون بما يلي:

  1. الاقتداء بالأنبياء والمرسلين في إغاثة ونصرة المستضعفين: نحن نقتدي بالأنبياء والمرسلين كما أمرنا الله سبحانه وتعالى فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ‌اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، والأنبياء جميعا قاموا بواجب النصرة والإغاثة حتى بحق من تعرضوا للظلم عنده؛ كيوسف عليه السلام الذي لم يخذل الملك وشعبه وفسر لهم الرؤيا لاستنقاذهم من المجاعة الاقتصادية المهلكة، وموسى عليه السلام أغاث المرأتين في أرض مدين وسقى لهما ثم تولى إلى الظل، ونبينا صلى الله عليه وسلم تستصرخه امرأة مسلمة وقع الاعتداء عليها فيحاصر الرجل وقبيلته حتى يجليهم عن المدينة.
  2. مطالعة سير من عُرفوا بنصرة وإغاثة الملهوف: كقصة مؤمن آل فرعون الذي هب لنصرة نبي الله موسى بعد أن توعده فرعون بالقتل وجاء الملأ يأتمرون به ليقتلوه، وحبيب النجار الذي نصر الرسل الثلاثة بعد تكذيب قومهم لهم، وبذل حياته دفاعا عنهم وإغاثة لهم قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ ‌أَقْصَى ‌الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يس: 20-22] 
  3. معرفة حقوق الأخوة الإسلامية وتذكر سؤال الله لنا: إن معرفة حقوق الأخوة الإسلامية وواجباتها يوجب علينا عدم التقاعس وترك الخذلان كما في الحديث:”انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا” فأوجب النصرة وحرم تسليمه لظالمه وعدوه وترك نصرته مع القدرة عليها فقال: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه” ، ولنتذكر أننا جميعا سنسأل بين يدي الله يوم القيامة عن خذلاننا لأهلنا وإخواننا في غزة. والمقدور عليه كثير شريطة أن يكون في الأطر القانونية وأن يكون مستداما.
  4. تذكر عاقبة الخذلان وجزاء النصرة: ويكفي المتخاذل حرمانه من نصرة الله له في أوقات الشدائد والكرب، ويكفي من يقف إلى جوار المظلوم نصرة الله له وقت الكرب والشدة.

اللهم فرج الكرب وأوقف الحرب عن أهلنا وإخواننا في غزة وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، أطمعهم من جوع وآمنهم من خوف، وعليك بمن ظلمهم وحاصرهم، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80