تحرير المستضعفين
واجب الوقت وأولى الأولويات
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 11 إبريل 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فبقدر ما تُفرحنا مشاهد إقبال المسلمين على العبادات والطاعات في رمضان بقدر ما تجعلنا نتوقف عند حالة الخلل في أولويات الأعمال ومراتبها بغية إصلاح التدين عند المسلمين وضبط بوصلته؛ فانتظام المسلمين في صلاة التراويح شيء رائع وعظيم لكن الأجمل منه حفاظهم على الفرائض والواجبات مثل حفاظهم على السنن والمندوبات، ومشاهد اجتماع المسلمين في الساحات بالآلاف لصلاة العيد بالآلاف مشهد رائع يأسر نفس وقلب كل مسلم؛ لكن صلاة العيد سنة وصلاة الجمعة فرض فأين هذه الحشود في صلاة الجمعة وفي الحفاظ على الفرائض الخمس؟ ومن المشاهد المهمة التي يجب التوقف عندها مشهد إقبال المسلمين على العمرة في رمضان، وهو أمرٌ حسنٌ لا شك لأنه يعكس رغبةً في تزكية النفس بالاعتكاف في الحرمين الرشيفين في رمضان وتحصيل الثواب الأكبر للعمرة الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:” عمرة في رمضان تعدل حجة، أو حجة معي” البخاري. لكن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا قال:” أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنَّةِ كَهاتين ، وأشارَ بأصبُعَيْهِ يعني : السَّبَّابةَ والوسطى” مسلم والترمذي. فَلِمَ نقصر باب مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة على باب واحد وهو العمرة في رمضان مع ارتفاع كلفتها على كفالة أيتام غزة مع حاجتهم الشديدة للكفالة والرعاية بعد فقد من يعولهم وينفق عليهم؟! لقد أنكر عبدالله بن المبارك على الفضيل بن عياض الملقب بعابد الحرمين اعتكافه وعبادته وقت النضال لتحرير المستضعفين واعتبره لاعباً بالعبادة قائلاً:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
ولو وضح ميزان الأولويات عند المسلمين لوفروا هذه الأموال لكفالة أيتام غزة، ورحم الله سيدنا عبدالله بن مسعود الذي استشرف هذا الحال فقال:” في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه “
وقد تطورت الأحداث في غزة تطورا كبيراً ومتسارعا وتجاوزت حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي كل الحدود، وعجزت معها مفردات اللغة عن الإحاطة وتصوير ما يجري من فظائع وتجويع وأهوال، وأخطر ما في هذه الأحداث هو حالة السبات والخذلان التي تحياها الأمة، والحراك الذي تقوم به وهناك حراك هزيل ضعيف ومتقطع غير مستدام أو فعال أو مؤثر في إيقاف الحرب، ولا يرقى لمستوى الأحداث العظام التي نتابعها صباح مساء، وهذه الأحداث تفرض علينا أن نجعل إغاثة المستضعفين وتحريرهم في غزة وفلسطين واجب الوقت، وأولى الأولويات، وأن يتقدم على غيره من الواجبات والأعمال وذلك لما يلي:
- اهتمام القرآن بأمر المستضعفين وتحريرهم: اهتم القرآن الكريم بأمر المستضعفين اهتماما كبيراً، والقاعدة في فقه مراتب الأعمال أن نهتم بالشيء على قدر اهتمام القرآن الكريم به، قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75]، فقد شُرع القتال هنا بفقهه وشروطه ونظامه لاستنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين اضطهدوا في مكة وعجزوا عن الخروج والهجرة منها أو لأن المشركين منعوهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم فيقول: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبى ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، والواقع أن أهل غزة اليوم أشد استضعافا وحاجة للاستنقاذ والعون والإغاثة ممن تحدثت عنهم الآية فقد حوصروا 18 عاما وقوتلوا 18 عشر شهرا ومُنعوا الغذاء والدواء والماء تحت سمع العالم وبصره، فإغاثتهم واجبة على كل مسلم بما يستطيع ويدخل تحت قدرته حسب ظرفه ونظام وقانون البلد الذي يعيش فيه.
- تقديم القرآن الكريم لجنس أعمال الجهاد على جنس أعمال الحج: فإغاثة أهل غزة بالغذاء والدواء والحاجات الضرورية مقدمة على حج النافلة وعمرة التطوع حتى لو كانت في رمضان، وثواب تلك الإغاثة أعظم من ثواب الحج والعمرة إذا أُديت حجة الفريضة قال تعالى: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 19] وسبب تفضيل جنس أعمال الجهاد على جنس أعمال الحج أن الجهاد عبادة متعدية النفع للغير، والحج والعمرة عبادة مقصورة النفع على صاحبها؛ لهذا قال ابن عمر رضي الله عنه:” لسفرة في سبيل الله أفضل من خمسين حجة” والجهاد بمفهومه العام مطلوب هنا لنصرة أهل غزة وهو بذل الجهد لإغاثتهم وعونهم بالأغذية والأدوية والحاجات الإنسانية الضرورية، ولا يقتصر على الجهاد العسكري فحسب.
- أكثر قصص القرآن تكرارا قصة محورها تحرير المستضعفين: تعتبر قصة سيدنا موسى عليه السلام أكثر قصص الأنبياء تكرارا في القرآن الكريم؛ حيث ورد الحديث عنها في أكثر من عشرين سورة، تارة بصورة مفصلة، كما هو الحال في سور (البقرة)، و(الأعراف)، و(طه)، و(الشعراء)، و(القصص). وأخرى بصورة مختصرة، كما هو الحال في سور (الروم)، و(الدخان)، و(النازعات) وغيرها، وقد كان محور القصة وهدف ورسالة سيدنا موسى عليه السلام هو مقاومة الطغيان وتحرير المستضعفين، ومن هذه القصة نتعلم وجوب المسارعة لمقاومة الطغيان وتحرير المستضعفين في غزة، ومن قصص الأنبياء جميعا نتعلم أن نجعل أولويتنا الأولى العناية بالقضايا الكبرى لزماننا وقضية فلسطين وما يجري على أرض غزة اليوم يجعلها القضية الكبرى في هذه المرحلة من عمر أمتنا الجريحة المكلومة.
- ليلة القدر مستمرة بعد رمضان: يسارع الناس في العشر الأواخر من رمضان للاجتهاد والتحري عسى أن يدركوا ليلة القدر فينالوا شرفها وبركتها ويظفروا بالأجر العظيم على العبادة فيها فهي خير من ألف شهر، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان صحيحان يؤكدان على أن الرباط في سبيل الله ونصرة وإغاثة المستضعفين خير في الأجر والثواب من ليلة القدر؛ الحديث الأول: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّه كان في الرِّباط ففزعوا إلى السَّاحل، ثم قيل.. لا بأس، فانصرف النَّاس وأبو هريرة واقف، فمرَّ به إنسانٌ فقال: ما يُوقِفُك يا أبا هريرة؟! فقال: سمعتٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “موقِفٌ ساعةٍ في سبيل الله خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجرِ الأسود ” أخرجه ابن حبان، والبيهقي، والحديث الثاني: عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِلَيْلَةٍ أَفْضَلَ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ؟ حَارِسٌ حَرَسَ فِي أَرْضِ خَوْفٍ، لَعَلَّهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ» أخرجه البيهقي، والحاكم، والنسائي، فالباب مفتوح لتحري ليلة القدر والبحث عنها في أنات الثكالى والمحرومين، وصرخات الأطفال الجرحى والمكلومين.
اللهم فرج الكرب وأوقف الحرب عن أهلنا في غزة، وكن لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، وارفع راية الحق والعدل والحرية والإنسانية في كل مكان، والحمد لله رب العالمين.