إرسل فتوى

تأملات في قصة موسى عليه السلام

تأملات في قصة موسى عليه السلام

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 16 أغسطس 2024م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:

فتابع جميعا ما يقع على أرض غزة الأبية وفلسطين المباركة من حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ــــ إن كنا لا زلنا نتابع ـــــ تلك الحرب التي تجاوزت أحداثها كل حدود البغي والإجرام وتعجز قواميس اللغة ومفرداتها عن بيانها ووصفها، سواء وصف أهوالها وفظائعها أو صبر وثبات المستهدفين بها، ألم يأتكم نبأ هذا الشباب الغزي الذي ازداد له توأمان فذهب لاستخراج شهادة ميلاد لهما وعاد وقد استشهدا مع أمهما في غارة ظالمة ليعود في ذات اللحظة لاستخراج شهادة وفاتهما مع أمهما!! ومثله الكثير فقد وثقت المنظمات الحقوقية أن 115 رضيعا قتلوا في تلك الحرب حتى الآن؟! وأكثر من 16 ألف شهيد من الأطفال،و11 ألف شهيدة من النساء، ثم ألم يأتكم نبأ ذلك الأب الذي يعجز حتى عن تسلم جثمان ولده فيُعطى كيسا به 23 كيلو من الأشلاء المقطعة ويقال له هذا ما وجدناه مما نظن أنه لولدك!!

يقع هذا الإجرام تحت سمع وبصر العالم الغربي المتحضر، والعربي الإسلامي النائم، لا تتحرك إنسانية الأول ولا إسلامية الثاني، لقد كشفت هذه الحرب الظالمة تناقضات الغرب وزيف مشروعه، وسقوط منظومات الحقوق التي لطالما دعا إليها واعتبر نفسه النموذج فيها: حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، ولا أدري كيف يمكن لأمريكا والغرب أن يتحدث عن حق المرأة في التعليم وحقها في الميراث واتهام نظام الإسلام بأنه ظلمها حين نصَّف حقها أمام الرجل في بعض صور الميراث، وحق الطفل في التعليم وتجريم معاقبته بالضرب غير المبرح لتقويمه وتأديبه، كيف له أن يتحدث عن هذه الحقوق بعد أن أيَّد وبارك حرمانهم من أصل الحقوق وهو حق الحياة!!

وأمام هذه الحرب الظالمة والإبادة الجماعية يتجدد السؤال ما الذي يجب علينا فعله؟

وكيف نستعيد الأمل المفقود في حصول الفرج وتوقف المعاناة؟

والجواب في القرآن الكريم، وفي قصة سيدنا موسى عليه السلام مع فرعون وبطشه وطغيانه الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ ‌عَلَا ‌فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 4]، ومن أهم رسائل هذه القصة المتكررة كثيراً في القرآن الكريم في سياق هذه الأحداث ما يلي:

1- لا تكن ظهيراً للمجرمين:

قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ‌ظَهِيرًا ‌لِلْمُجْرِمِينَ ﴾ [القصص: 17]، وهذه الآية تصلح أن تكون شعاراً للمرحلة التي نحياها الآن؛ فقد كثر فيها الظلم والبغي وسُفكت فيها دماء كثيرة بغير حق، فلا تكونن ظهيرا أو عونا أو سنداً لظالم بقول أو فعل أو موقف، وافعل كل ما تبرهن به على براءتك من مناصرة الظالمين والمستبدين ولو لم تر أثره المباشر، ومن ذلك مقاطعة منتجات وبضائع كل داعم للقتل والظلم، ومن ذلك مواجهة ورفض كل سياسي ظهير للعدوان على النساء والأطفال الأبرياء.

2- الفرج آت لا محالة وإن تأخر:

علينا أن نستحضر معنى ومفهوم العبودية لله وأنه له تبارك اسمه حكمة في كل ما يجري وأنه مهما طال أمد الابتلاء ومهما طالت الشدة سيعقبها الفرج إن شاء الله، قد يكون الفرج عاجلاً سريعا كما حدث مع أم موسى حين ألقت رضيعها في اليم وبعد يوم وليلة جاء الفرج ﴿‌فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص: 13]، وقد يتأخر الفرج كثيراً كما حدث في قصة يوسف عليه السلام حيث صبر وانتظر يعقوب عليه السلام على فقد ولده عشرات السنين حتى جمعه الله به، وكما في قصة أيوب عليه السلام حيث ابتلي بهلاك ولده وفقد ماله ومرض في بدنه استمر لقرابة عشر سنين ثم جاء الفرج وعافاه الله وعوضه عما فقد، فعلينا أن نسلم لأمر الله ونوقن في نصره وحكمته ونصبر على قضائه وقدره، وكما في قصة موسى مع فرعون حيث تأخر الفرج على الجماعة المسلمة لكنه جاء في حينه وأغرق الله فرعون وجنده.

3- وجوب نصرة المظلوم:

فموسى عليه السلام لم يتردد في نصرة المظلوم الذي استغاث به، وكانت رسالته ودعوته في مقاومة الظالم المستبد، والنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من خذلان المظلوم فقال:”المسلِمُ أخُو المسلِمِ ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ” البخاري. وكم استغاث بنا إخواننا فخذلناهم ولم نستفرغ كل ما في وسعنا لنصرتهم وإغاثتهم، وكان غيرنا أسبق منا عملاً واستدامة وتضحية  كانتفاضة الطلاب في الجماعات الأمريكية ضد الظلم والحرب.

4-العاقبة للمتقين:

﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ ‌يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، فمن واجبات المرحلة الاستعانة بالله، والصبر على الابتلاء واليقين في موعود الله بأن العاقبة للمتقين، وأنه مهما طال ليل الظلم لابد أن يعقبه فجر العدل.

5- الاستكبار والظلم مؤذن بالزوال والهلاك:

﴿وَاسْتَكْبَرَ ‌هُوَ ‌وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: 39-40]، فكل حضارة تنحرف عن ميزان العدل إلى الجور والظلم إلى أفول وزوال مهما امتلكت من أسباب القوة والاغترار بها، ومهما طال زمن علوها واستكبارها، ومهما خيل إليها أن حضارتها لا تذبل أو تأفل.

 

اللهم فرج الكرب عن إخواننا في غزة، اللهم أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي
المقالات: 161