إرسل فتوى

اليُسر بعد العُسر، والفرج بعد الشدة

اليُسر بعد العُسر، والفرج بعد الشدة

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. ألمانيا . بون 29 نوفمبر 2024م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فقد تتابعت أسباب الإحباط واليأس على كثير من المسلمين مع طول أمد الحرب على غزة وعدم ظهور أمل يلوح في الأفق لانتهائها، وحتى الفرحة بتوقف الحرب على لبنان هي فرحة منقوصة لاستمرار الجراح في غزة الأبية، والواقع أن أسباب اليأس والانكسار وتراجع الاستبشار وترقب الأمل كثيرة حتى مع تجاوز الحرب على غزة، فمن سجن وقمع الدعاة والمصلحين، إلى تراجع الحريات الدينية للمسلمين في أوروبا، إلى كثرة بؤر وأماكن الظلم وزيادة أعداد المستضعفين والمهجرين كل ذلك وغيره أنتج حالة من الانكسار والإحباط في واقعنا اليوم.

وعندما نعود إلى القرآن الكريم نُمنَحُ جرعة هائلة من اليقين والأمل في أن الشدة لابد أن يعقبها الفرج، والعسر لابد أن يولد من رحمه اليسر قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ‌الْعُسْرِ ‌يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5-6]،

وقد كان الصحابة يوقنون بقرب اليسر مهما ظهر العسر وتضاعفت صوره بعد نزول هذه الآيات؛ فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه.

وقرر علماء اللغة: أن العرب إذا أعادت ذكر المعرفة كانت عين الأولى، وإذا أعادت النكرة كانت الثانية غير الأولى كما في هاتين الآيتين؛ فالعسر معرف بأل، و: “يسر” منكرة، ولهذا قال عبدالله بن عباس رضي الله عنه: لن يغلب عسر يسرين.

وقد كانت هذه الآيات سبباً في إسلام رحيم جان البريطاني المولود في لندن والذي هاجر أبوه من الهند إلى لندن عام 1940م ووالده مسلم من أصول عربية من الحجاز، وأمه أيرلندية مسيحية كاثوليكية، ويقول رحيم جان عن حياته: لم أعش حياتي كمسلم أو حتى كاثوليكي كأمي أنا وأخي وأختي بل عشنا بعيدا عن كل الأديان، وكنت أعشق الموسيقى حتى أنها كانت ديني الحقيقي، حتى عمل مع أشهر الفنانين العالميين، وحقق أمنياته الدنيوية الموسيقية كاملة، وكان لرحيم ابن عم مسلم هو صديقه المقرب يقضي معه دائما الإجازات الصيفية، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره قررت أمه أن يسافر للحج وأن لا يذهب لقضاء العطلة الصيفية معه، وحزن رحيم لذلك حزنا شديدا وحاول إقناع والدته بمنعه من السفر للحج، لكن والدته رفضت قائلة: لقد حجزنا له وهذه فريضة لابد من أدائها، وبعد أن عاد ابن عمه من الحج تغير كثيرا للأفضل واستقر نفسيا وبدأ رحلة الالتزام الديني وقاطع حفلات ابن عمه، ورغم النجاحات الدنيوية لرحيم جان وارتكابه لكل أنواع الذنوب والمعاصي إلا أنه لم يكن سعيدا، وكان محبطا يائسا وكاد يجن حتى أنه فكر في الانتحار وهنا قفز إلى ذهنه أن يعقد معاهدة مع الله لئن أنقده من تلك الحالة أن يقلع عن المعاصي ثلاثة أسابيع  وقال سأفتح المصحف وأقرأ القرآن، ولما فتح المصحف كانت الآيات التي وقعت عينه عليها هي قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ ‌الْعُسْرِ ‌يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5-6]

وعندما قرأ الآيات قال: وكأنما هذه الآيات كُتبت لأجلي، وأسلم وبدأ رحلة الالتزام الديني وترك الموسيقى والحفلات رغم أنه كان في قمة النجاح والشهرة وقتها، وكانت أمه من أشد المعارضين لإسلامه، ورغم ذلك حرص على هدايتها ودعوتها إلى الإسلام، وخلال سبعة عشر عاما على إسلامه أبت أمه أن تسلم، ولما أصيبت بالسرطان وبقيت أيامها معدودة في الدنيا طلبت من ولدها أن يحرق جثتها بعد موتها، وكان هذا هو المدخل لدعوتها إلى الإسلام لتدفن دفنا إسلاميا دون حرق بعد موتها، فنطقت بالشهادتين وأسلمت وماتت بعد إسلامها بثلاثة أيام.

ومن أهم رسائل هذه الآيات وتلك القصة ما يلي:

1- من أهم أسباب تعجيل الفرج واليسر، التيسير على المسلمين:

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب الآخرة”. مسلم، وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة”. البخاري ومسلم. وأحق الناس بالغوث والعمل على تفريج كربهم وتأمين الطعام والشراب والدواء لهم هم أهل غزة، فلا تكن سببا في تأخير الفرج عنهم بتقاعسك عن واجبك الشرعي والإنساني نحوهم.

2-من أسباب تعجيل الفرج واليسر، التضرع إلى الله بالخبيآت والأعمال الصالحة:

فالتضرع إلى الله بالأعمال الصالحة والخبيئة التي بينك وبين ربك لا يعلمها إلا هو من أسباب تعجيل الفرج كما في حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وانفرجت بسبب ضراعتهم وافتقارهم إلى الله بعمل خفي صالح، والله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ ‌يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4]، فتضرعوا إلى الله بخفايا الأعمال الصالحة أن يعجل بالفرج عن غزة والسودان وكل المستضعفين في كل مكان.  

3- خطر الغفلة عن ضياع الدين في الغرب:

فهذه الأسرة التي هاجرت إلى بريطانيا لم تجعل هم ثبات أولادها على الدين أولوية بالنسبة لها فتزوج الأب امرأة غير مسلمة، ولم يهتم بأخذ أولاده إلى المساجد أو تعليمهم الدين، رغم قرب أخيه منه والتزام أولاده بالدين، وهذا الحال يمكن أن يقع لكثير من المسلمين في الغرب حال الغفلة عن أولادهم وعدم بذل الجهد لإيجاد الصحبة الصالحة لهم وحمل هم ثباتهم على الدين، وهذا يعني أيضا أن المشكلة ليست في مكان الإقامة هل أوروبا أو غيرها وإنما ما الذي تقوم به الأسرة مع الأولاد لحفظ الدين وسط التحديات؟

4- الحج والعمرة من أسباب الثبات على الدين:

فقد كان سفر ابن عم رحيم جان للحج سببا في التزامه الديني وسببا في تفكير رحيم في العودة إلى الدين، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا ‌وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96].

5- القرآن الكريم أفضل سبيل للتعريف بالإسلام:

مهما ترجمنا من الكتب وصنفنا من التصانيف للتعريف بالإسلام يبقى القرآن هو الوسيلة الأولى للتعريف بالإسلام، شريطة أن نبحث عن حلول لتحسين وتجويد الترجمات، وإزالة الحجب والعوائق بين القرآن وبين إيصال رسالته للعالمين، فقد كانت آية واحدة من سورة الشرح سببا في إسلام رحيم جان وتغيير مسار حياته من الظلمات إلى النور.

6- أولى الناس بالدعوة إلى الإسلام، الوالدين والأقارب:

أفضل ما يفعله المسلم الجديد أن يتوجه إلى أبيه وأمه وإخوته بدعوتهم للإسلام، وأن يصبر عليهم وأن يحسن التأتي لهم ويختار أفضل السبل التي يستنقذهم بها من النار وأن يكثر من الدعاء لهم وأن لا يقطع الأمل في هدايتهم حتى آخر لحظة في حياتهم، فقد ظل رحيم جان يترقب اللحظة المناسبة لدعوة أمة الكاثوليكية للإسلام حتى كتب الله لها الهداية قبل موتها بأيام.

اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى، اللهم حبب إلينا وإلى أولادنا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا وإليهم الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا وإياهم من الراشدين، اللهم رد من شرد منها إلى رحاب الإيمان، اللهم فرج الكرب عن غزة وأهلها، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80