إرسل فتوى

الهجرة واستعادة البوصلة المفقودة

الهجرة واستعادة البوصلة المفقودة

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 27 يونيو 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فإن هذه الجمعة هي الأولى في عام هجري جديد 1447هـــ بدخول شهر الله المحرم، ويدخل علينا العام الهجري الجديد والحرب مستمرة على أهلنا وإخواننا في غزة منذ أكثر من 650 يوماً تحت سمع العالم وبصره شرقه وغربه، تشتعل حروب وتنطفئ والحرب على غزة وحدها مستمرة لا تتوقف ولا تنقطع، يهل علينا عام هجري جديد وقد فقدت الأمة بوصلتها وغاب مشروعها فتعلقت بمشروعات غيرها ثم أدركت أن مشروع غيرها لا ينفعها بل يضادها وربما أضرها فارتد بصرها إليها خاسئا وهو حسير! يأتي علينا العام الهجري الجديد وقد فقدت الأمة وحدتها وهويتها؛ فتفرقت وتشتت رغم تعدد أسباب الوحدة وتأكدها في ظرف عصيب تمر به الأمة فانتظرت من غيرها أن يقوم بدورها في عالم يموج بالصراعات والفتن ولا يعرف سوى المصالح وإن ضُيِّعت كل المبادئ، وضعفت هويتها التي من أبسط مظاهرها أن تعود إلى تاريخها الهجري وأن تذكر الهجرة وصاحبها، وأحوج فئة في الأمة للاتحاد واستعادة الهوية هم المسلمون في الغرب لا سيما بعد المتغيرات السياسية المحلية والعالمية التي جدت معها أسئلة وإشكالات تهدد الوجود الإسلامي في الغرب هويةً وتدينا ومؤسسات، ومع هذه المعطيات يستشعر الراصد لأحوال الأمة وواقعها فقدان البوصلة الهادية التي تنير طريقها وتخرجها من حالة التيه والتشرذم الذي لا يفرح به سوى عدوها، والواقع أن الهجرة النبوية المباركة تمثل برسائلها خارطة طريق لاستعادة تلك البوصلة والخروج من النفق المظلم الذي أُدخلت الأمة فيه ويسعى بعض المخلصين من أبنائها للتفكير في إخراجها منه، ومن أهم رسائل الهجرة النبوية لاستعادة تلك البوصلة ما يلي:

  1. التخطيط والعمل في ظل وضوح الرؤية السُنَنية: إن أزمة الأمة اليوم تتمثل في غياب مشروع رؤيته واضحة؛ لهذا تراها تتردد في الولاء لأقرب المشروعات إليها، والهجرة النبوية المباركة كانت لمشروع واضح المعالم أتبعته خطة في ضوء السنن التي انطلق منها ورقة بن نوفل لما علم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم في مطلع بعثته وقد كان ورقة خبيراً بتاريخ الأمم وسنن التاريخ فطبق هذه السنن والتاريخ على خبر النبوة فقال له:” ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال: أَوَ مُخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً” أخرجه البخاري. فمن يملك المشروع الواضح لابد أن يدرك أن مقتضى عمل السنن أن يحارَب ويعادَى ويواجَه ولهذا فإن من المواضع القرآنية المؤكِّدة على أبدية العداوة والصراع بين الحق والباطل ذلك الموضع من سورة البقرة الذي جاء بعده مباشرة الحديث عن الهجرة قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 217-218]، ولوضوح الرؤية عند المهاجرين الأُوَل ومعرفتهم بالتاريخ والسنن أخذوا بالأسباب وأعدوا الخطة المحكمة لإنجاح الهجرة فلم يتركوا مجالاً للخطأ أو الصدفة، فهل وعى المسلمون شرقا وغربا لهذا الدرس فبنوا مشروعهم وأحكموا رؤيتهم وعدتهم وخطتهم خاصة أهل الفكر والنظر والعلم فيهم أم أنهم أسلموا أنفسهم لعدوهم وانتظروا ما يفعله بهم؟! بل كان عدوهم أشد إدراكا منهم لتلك السنن فخطط وعمل ومكر ودبر، وذات الأمر ينطبق بصورة أوضح على المسلمين في الغرب الذين ينطلقون في عملهم من ردات الفعل قبل الفعل، ويعتنون ببناء الجدران قبل تربية وبناء الإنسان فيسهل بذلك هدم البنيان وإعاقة القلة العاملة.     
  2. استعادة مفهوم الآخرة والتضحية لأجل الدين: إن أحد أدواء وعلل الأمة العضال اليوم يكمن في التعلق بالدنيا وحبها ونسيان الآخرة والتضحية لها، وإلباس الخوف على الدنيا ثوب الحكمة وتقدير العواقب، وإذا أردنا تجاوز حالة الغثائية التي نحياها الآن فلابد من استعادة مفهوم الآخرة والتضحية لأجل الدين؛ ولهذا فقد ذكرت الهجرة في القرآن الكريم قرابة 31 مرة ربطت أغلب المواضع بسعة الرزق والعطاء الأخروي، لأن الهجرة تضحية كبرى فلابد من وعد قرآني دافع لتلك التضحية تأمل قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 41] ، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [الحج: 58-59]  ، وقوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195]، فهل ما زالت هجرتنا لله وفي الله أم فقدنا البوصلة وأنسينا ما هاجرنا لأجله وفي سبيله؟!!
  3. الرباط والتوطين والتدافع لحماية الرسالة والمبدأ: لم تكن هجرة الأنبياء فرارا وهربا من خطر على الأنفس أو طلبا لحياة أفضل ورفاهية أحسن، لم تكن هجرة لدنيا يصيبوها أو مغنم يطلبوه وإنما كانت بحثا عن وطن ومكان أفضل للرسالة والدعوة وحفاظا على الدين، ولم يقرروا الهجرة أو يؤذن لهم فيها إلا بعد تمام الاستيئاس وفقدان الأمل في أقوامهم كما في هجرة إبراهيم ولوط، وموسى ويونس ونبينا محمد عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، والأنبياء هم أهل الاقتداء والتأسي قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: 90]، وقد هاجر المسلمون إلى الغرب ووجدوا فيه حرية دينية فقدوها في أوطانهم وحققوا بهجرتهم مكاسب دنيوية ولا بأس فيها لو كانت تبعية ثانوية لا أصلية جوهرية، ثم تبدل الحال في الغرب وبدأت تلك الحريات في التقلص والتراجع بل والضغط على المسلمين ومؤسساتهم في الغرب وهي ضغوط مرشحة للتوسع والزيادة، وبدأت مع تلك الضغوط الدعوات للهجرة العكسية والفرار من الغرب إلى بيئات أخرى طلبا للأمن والسلامة، وهذا التوجه ليس توجها صحيحا ولا يعكس الفهم الصحيح لرسالة المسلم في الكون كما لا يعكس فهم رسالة الأنبياء وهجراتهم؛ فالأصل هو الرباط في الغرب والمرابطة والتوطين والتدافع بالوسائل المتاحة والتضحية لأجل الدين والرسالة والقيام بالبلاغ المبين والبيان الحضاري العالمي للإسلام؛ فإن الغرب والعالم مفتقر لقيمه ورسالته بعد أن طغت المادية وتوحش الإنسان على أخيه الإنسان، فإذا استحال العيش بالدين رغم التدافع والتضحية جاء خيار الهجرة، ومن اللطائف القرآنية أن العذاب المقيم تكرر كثيرا في القرآن الكريم أما النعيم المقيم فلم يذكر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في سياق الحديث عن الهجرة قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)﴾ [التوبة: 20] ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ﴾ [التوبة: 21]، فهل تنتظر النعيم المقيم على هجرة لا تضحية فيها ولا رسالة لها؟ وهل تُحصِّل النعيم المقيم في الجنة بلا عمل وبذل ومصابرة ومرابطة في سبيل الله؟!
  4. استعادة الأمل والـتآخي بين المسلمين: لقد تعددت أسباب اليأس بين المسلمين اليوم وتراجعت الأخوة والمحبة بين المسلمين وبين الدول والأقطار الإسلامية، وأحد أهم دروس الهجرة هي امتلاء النبي صلى الله عليه وسلم بالأمل رغم الضيق والظلم وإعراض 15 قبيلة عنه عندما عرض نفسه عليهم قبل الهجرة، ولكن الله بشَّره أنه سيعود إلى وطنه فاتحاً فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [القصص: 85]  وبشر سراقة بسواري كسرى، وكان ما بَشَّر به، لكنه لم يتوقف عن الجهاد والتخطيط والعمل والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهو ما نحتاج إليه في هذه المرحلة الامتلاء بالأمل الدافع إلى العمل واستعادة التآخي المفقود بين المسلمين والدول.

 

اللهم إنا نسأل هجرة من المعصية إلى الطاعة، ومن الفرقة إلى الجماعة، ومن الذل على العز ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الحرب إلى السلم، ومن الظلم إلى العدل، اللهم فرج الكرب وأوقف الكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة، وكن لهم سندا ومعينا ووليا ونصيرا، والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80