هذا الموقع يشرف عليه مجموعة من .طلبة العلم محبي الدكتور خالد حنفي.
إرسل فتوى
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
للحصول على فتوى، يرجى ملء هذا النموذج.
المشاركة السياسية للمسلمين في الغرب
هذا حوار كان على قناة ق التفاعلية مع الأستاذ الدكتور خالد حنفي.
اليوم بات المسلمون يشكلون كتلة صلبة في بلاد الغرب، تجاوزت أعدادهم عدة ملايين في بعض الدول الأوروبية، لكن هذه الكتلة تواجه تحديات كثيرة، من بينها العنصرية و”الإسلاموفوبيا” وغيرها، وأيضاً التضييق عليها في حريتها وأنشطتها.
لكن قد يسأل سائل: كيف يمكن للمسلمين الاستفادة من المشاركة السياسية تحديداً في الغرب لحماية حقوقهم ووجودهم هناك؟ وما هي الإشكالات المتعلقة بالمشاركة السياسية في الدول الغربية؟ المشاركة السياسية للمسلمين في الغرب هو موضوع حلقتنا لهذا اليوم من برنامج “فتاوى الأقليات”.
يسرنا أن نستضيف معنا لنقاش هذا الموضوع فضيلة الشيخ الدكتور خالد حنفي، الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
نسأل عن تعريف فكرة المشاركة السياسية للمسلمين في الغرب، ماذا نعني بها؟
الفكرة السائدة عند عموم المسلمين حول المشاركة السياسية، أو موضوع المشاركة السياسية، عادةً ما تُثار قبيل الانتخابات، الانتخابات البرلمانية أو الانتخابات المحلية أو الولائية أو غير ذلك، ويُطرح السؤال: ما حكم مشاركة المسلمين في هذه الانتخابات؟
فينتج عن طرح هذا السؤال في هذه السياقات أو في هذه الأوقات أن المشاركة السياسية تعني التصويت في الانتخابات المختلفة، وهذا فهم مغلوط؛ لأن معنى المشاركة السياسية أوسع من هذا بكثير.
المفهوم العام للمشاركة السياسية هو مفهوم واسع، وهو مشاركة المسلم في صناعة القرار السياسي للبلد الذي يعيش فيه، وإسهام المسلم في تشكيل المعتقد السياسي للبلد الذي يعيش فيه، وهذه نعمة كبيرة جداً، كثير من المسلمين الذين قدموا إلى أوروبا حُرموا من هذه النعمة في بلدانهم التي قدموا منها.
نحن نعرف حال الانتخابات في العالم العربي والإسلامي؛ فالناس تزهد في الانتخابات ولا تذهب فيها، ويذكرون الطرائف والنكات التي تعكس هذه الحالة، يقولون: “إن الحكومة ستصوت لنا أو ستنتخب عنا”.
والمرات النادرة الوحيدة التي نالت الشعوب حقها وحريتها في التصويت وفي الانتخابات، تم الانقلاب عليها.
الانتخابات في أذهان المسلمين الذين قدموا من بلدانهم الأصلية إلى الغرب قديماً أو حديثاً مرتبطة بالتزوير، بعدم التأثير، فانتقلت هذه الفكرة للأسف إلى شرائح كبيرة من المسلمين، فضعفت مشاركة المسلمين السياسية، وانتقلت أو تسربت هذه الإشكالية من الجيل الأول إلى الأجيال الجديدة في الغرب.
هل ممكن أن يكون للمسلمين دور في الحياة السياسية في غير التصويت؟ يعني ماذا يمكن لنا أن نفعل غير التصويت في الانتخابات؟
الغرب ومنظومته السياسية استطاعت أن تبتكر أساليب حديثة، محكمة وقوية، تمنع الحاكم من الاستبداد وتراقب أحواله وتمنع فساده، ولذلك تقدم هذا التقدم الهائل والمذهل الذي نلاحظه ونراه. نعم، والمسلمون كجزء من هذا المجتمع يتعين عليهم أن يدخلوا في هذه المنظومة.
إذا كنا نتحدث عن هذا المفهوم الواسع الأعمق والأكبر للمشاركة السياسية، فهذا المفهوم لن يتحقق إذا كنا على ما هو دونه، وهو أعجز، وهو المشاركة بمجرد التصويت.
هل هناك فعلاً قبول حقيقي من المجتمع الغربي لمشاركة أشخاص أتوا من دول أخرى، خاصة دول عربية مثلاً أو إسلامية، للمشاركة السياسية معهم؟
المجتمعات الغربية جاهدت طويلاً حتى تبلغ وحتى تصل إلى المستوى الذي بلغته من التحضر ومن التقدم، وتحترم هذه الآليات.
وبالتالي إذا أنتجت الآلية وصول مرشح مسلم أو مرشحة مسلمة، فلا يمكن أبداً أن يشكك أحد أو يطعن أحد أو لا يقبل أحد هذه النتائج، مثل بعض البلدان.
أنا أقول: إن الصور الإيجابية المقبولة في المجتمعات الغربية، نحن لم نبلغها كمسلمين في بلداننا للأسف الشديد. وعندنا نماذج كثيرة جداً.
الانتخابات الأخيرة التي وقعت في ألمانيا، نجح فيها بعض المرشحين المسلمين من أصول عربية مسلمة هناك.
ولايات تولى المسؤولية الكاملة عنها مسلمون، في بريطانيا، في أمريكا.
عمدة الولاية هو شخص مسلم، ويظهر أمام الناس بزوجته المتحجبة. طبعاً هذا يعكس تحديات أخرى من نوع آخر.
إنما إجابة على السؤال الذي طرحت: نعم، المجتمعات الغربية تقبل وليس عندها إشكال؛ لأن معيارها الأساسي هو الكفاءة.
هذا الشخص وصل ورضيه الشعب واختاره الشعب، لنرَ ماذا سيصنع.
أمر لا يعدو أن كونه مثلاً دعاية انتخابية، أنه أنا كحزب على سبيل المثال معي بعض الأقليات التي تشارك معي، فبالتالي أستطيع أن أكسب بعض الأصوات، ولكن لا يوجد لهم تأثير حقيقي على أرض الواقع.
هذا موجود، ولكن الشعوب الغربية شعوب واعية، وإن كانت تتأثر طبعاً بالخطاب الإعلامي شأن كل الشعوب.
أعود إلى السؤال الذي طرحته؛ لأنه سؤال مهم: ماذا عن الواقع؟
لا بد أن أشير إلى إشارة مهمة جداً وهي أن وعي المسلمين السياسي في الغرب تطور تطوراً كبيراً جداً في السنوات العشر الأخيرة، وهذا التطور يرجع بشكل أساسي إلى خطاب المسلمين وخطاب الدعاة الذي تطور أيضاً واهتم بهذه القضية.
وتمركز المسلمين في الغرب حول مرجعيتهم الدينية الأوروبية؛ لأنه السبب الأساسي في تقديري الذي أدى، أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى ضعف مشاركة المسلمين سياسياً، هو الفتاوى المستوردة والخطاب الوافد من العالم العربي والإسلامي على المجتمعات الأوروبية.
فقيه أو عالم يحرم الإقامة في الغرب أصلاً، فكيف يمكن أن يبيح المشاركة السياسية في هذه البلاد مع إشكالاتها التي سنطرحها؟
فهناك تطور كبير جداً واضح في وعي المسلمين سياسياً ومشاركتهم السياسية، لكن مع هذا التطور نحن غير راضين أبداً عن المشاركة أو الفعل السياسي أو الوعي السياسي للمسلمين في الغرب. نعم، هذا التطور لا يناسب حجم وعدد المسلمين في الغرب، ولا يناسب حجم التحديات التي يواجهها الوجود الإسلامي.
عن حجم المشاركة الموجود؟
نعم، حجم المشاركة ضعيف جداً بالنظر إلى حجم المسلمين، بالنظر إلى التحديات التي تواجه المسلمين. هناك تحديات غير مسبوقة تواجه الوجود الإسلامي في الغرب اليوم.
أهم شيء يمكن للمسلم الأوروبي أن يواجه به هذه التحديات وهذه المتغيرات هو أن يشارك سياسياً، أهم واجب، ومع ذلك هو أكثر شيء يقصر فيه المسلم الأوروبي بكل أسف.
لا بد أيضاً أن أشير إشارة مهمة جداً وهي أننا لا توجد عندنا إحصاءات أو مراكز دراسات رصدت بدقة وبموضوعية حجم مشاركة المسلمين، حتى نعتمد على نسب دقيقة في هذا الاتجاه، ولكن المؤشرات الظاهرة أو النظرة الأولية المبدئية تؤكد على ضعف هذه المشاركة مثلما أشرت.
مثلاً عندنا بعض المدن التي فيها تمركز كبير جداً وواسع للمسلمين، ونسبة المسلمين فيها نسبة كبيرة جداً، ومع ذلك تحصل الأحزاب اليمينية المتطرفة على أعلى الأصوات أو النسب فيها.
ماذا يعكس هذا؟ لو شارك المسلمون لأثروا، لا يمكن أبداً أن تكون النتيجة لهذا الحزب على هذا النحو.
دكتور، لفتني من حديثك قبل قليل ما يتعلق بالفتاوى المستوردة أو الموجودة في الغرب، هل هذه رسالة مثلاً ممكن نوجهها لكل الموجودين في دول الغرب أن لا يأخذوا فتاوى إلا من المشايخ في الغرب؟
أنا أؤكد دائماً في خطابي وأشرت في بعض الحلقات من هذا المنبر ومن هذه القناة المباركة إلى أنه من أخطر الأشياء التي أضرت بالوجود الإسلامي في الغرب ما أسميه الفتاوى المستوردة.
الفتاوى المستوردة أو الفتاوى الوافدة التي قدمت من علماء لا ينقصهم العلم ولا تنقصهم المعرفة ولا تنقصهم الحجج والأسانيد والأدلة، إنما الإشكال بالنسبة لهم في الدراسة.
وليس في كل مسلم يعيش في الغرب أن تكون مرجعيته الإفتائية هي مرجعية أوروبية، وأن يغلب في اختياراته الفقهية المرجعية الجماعية على الفردية، يعني عنده إمام مثلاً أو عنده شيخه في المسجد يستفتيه ويسأله، فهنا أنصح الإمام أن تكون مرجعية الإمام نفسها المرجعية الإفتائية الجماعية، وأنصح المستفتي إما أن يعود إلى المرجعية الإفتائية الجماعية أو أن يعود إلى من مرجعيته الإفتائية جماعية وهو الأفضل.
وأهمس أيضاً في أذن إخواننا من المشايخ والعلماء والدعاة من خارج أوروبا، خاصة الكيانات والاتحادات التي تأسست حديثاً، يعني مثلاً الوجود السوري حديث في أوروبا ووجود كبير جداً.
نحن عندنا قدم إلى ألمانيا في السنوات الأخيرة أكثر من مليون لاجئ سوري، فأراد العلماء والدعاة الذين خرجوا أيضاً من سوريا أن يشكلوا لهم المرجعيات أو الكيانات الإفتائية خارج أوروبا، والمسلمون السوريون في أوروبا يرجعون، أو بعضهم يرجع إلى هذه المرجعيات الإفتائية.
هذا إشكال في الحقيقة. متى يرتفع هذا الإشكال؟
إذا نسقت هذه المؤسسات أو المرجعيات، لأنه مثل ما قلت هم علماء أفاضل لا ينقصهم العلم ولا التقوى ولا الخشية ولا الورع، لكن الإشكال هو عدم الاطلاع والبصر الدقيق بالواقع؛ فيكون هناك نوع من التنسيق بينهم وبين المرجعية الإفتائية في الغرب؛ لأنه النتيجة أنه إما أنه المسلم يأخذ فتوى لا تناسب حياته وتضيق عليه معيشته، أو أن يقع في حيرة واضطراب وتناقض.
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث يقر فتوى بالجواز مثلاً شراء البيوت مثلاً، التأمين، أي فتوى من الفتاوى، واتحاد العلماء العربي في أي بلد آخر يقول فتوى عكسها، والمفتي أصلاً هو وظيفته أن يخرج المستفتي من الحيرة ومن القلق ومن الاضطراب وليس أن يوقعه فيها.
ألا يوجد خلاف في هذه القضايا وحتى في موضوع المشاركة السياسية بين العلماء الموجودين في الغرب؟
طبعاً هناك خلاف موجود، نفس الخلاف الموجود في العالم بعمومه، لكن الخلاف الموجود في الدول الإسلامية، ليس موجوداً بنفس الشكل في دول الغرب.
الخلاف يقل ويتراجع بسبب ثبات وقوة المرجعية الإفتائية الجماعية للمسلمين.
أنت عندما تقول لي إنه أو أقول لك إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي يضم في عضويته الآن يتجاوز عددهم الـ80 عضواً لكن عددا من أعضائه توفوا رحمهم الله، وهناك من لا يقيم في الغرب، وهناك من هو معتقل.
إذا كان مرجعية إفتائية عقدت دورة علمية شارك فيها هؤلاء الأعضاء، وقدمت بحوث وورقات حول موضوع المشاركة السياسية، وانتهى المجلس إلى أن المشاركة السياسية يدور حكمها بين الإباحة والوجوب والندب، فمعناه أن المجلس الأوروبي كمرجعية إفتائية وهذا العدد الكبير من العلماء انتهى إلى نتيجة بعد دراسة وبحوث.
أنت كفقيه تعيش في غير الغرب، خارج المجتمعات الغربية، عندما تكون أمام نتيجة كهذه وعندك رأي يخالفها، يجب أن تقف مرة مع نفسك؛ لأنه الواقع أن هذه المؤسسة الجماعية ما بنت رأيها إلا على أدلة وعلى دراسة ميدانية وواقعية.
وأشير هنا إلى بعد في غاية الخطورة والأهمية، وهي أن من الفروق المركزية بين الهيئات الإفتائية المستقلة في الغرب كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هو قضية الاستقلالية.
الهيئات الإفتائية الموجودة في العالم العربي والإسلامي تتبع الحكومات وتتبع الدول وبالتالي لا بد أن تكون محكومة بسياسات هذه الدول شاءت أم أبت.
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هو هيئة مستقلة لا يتلقى دعماً أو تمويلاً من أي دولة ولا الحكومات الغربية تشكل ضغطاً عليه ولا أعضاؤه أو علماء عنده أي ضغوط.
فلماذا يفتي فتوى لا يلتزم فيها الحدود أو الضوابط الشرعية؟
يجامل من بهذه الفتوى؟ إذن لا يوجد أي شبهة، ولا يوجد أي توجه.
لو نعود قليلاً ونتوسع في موضوع الإشكاليات الموجودة في المشاركة السياسية المتعلقة بالمسلمين.
أهم الإشكاليات التي أدت إلى ضعف مشاركة المسلمين سياسياً هو مفهوم المشاركة السياسية أولاً؛ ما هو مفهوم المشاركة السياسية؟
النمط العام الموجود عند عموم المسلمين في الشرق، وانتقل معهم إلى الغرب، وهو فكرة البقاء في دائرة الدفاع وعدم الخروج منها إلى دائرة التأسيس أو البناء.
الدفاع بمعنى أن المسلمين كلما صدر قانون يقيد من حرياتهم الدينية، كقانون مثلاً يمنع المرأة من العمل بحجابها مثلاً، وهذا أحدث قانون صدر من محكمة حقوق الإنسان الأوروبية، ماذا يفعل المسلمون؟
ينددون، يشجبون، يستنكرون، كذا… دائماً نكون الحلقة الأضعف .
طيب أنت عندك حل أقوى من هذا كله، إذا شاركت سياسياً وكان لك حضور سياسي فاعل ستمنع ابتداءً وجود مثل هذه القوانين، لكن نحن نبقى فقط في دائرة ردات الفعل التي لا تنتج شيئاً.
ونفس الشيء مثلاً في قضية الرسوم السيئة التي أرادوا بها الإساءة لنبينا صلى الله عليه وسلم، فينتبه إلى أنه هذه الرسوم كشفت أن الأوروبيين لا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن نعرفهم بالنبي صلى الله عليه وسلم. عليه الصلاة والسلام.
هذا دفاع. لماذا لم ننتبه إلى أنهم لا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم فنعرفهم دون أن تحدث هذه أو تقع هذه الأحداث؟
الأمر الآخر هو التأثر بالعالم أو البيئات العربية في نظرتها للانتخابات أو في نظرتها لفكرة المشاركة السياسية، واعتقاد بعض المسلمين أو كثير من المسلمين أن مشاركتهم لن يكون لها تأثير أو لن يكون لها دور.
ثم من أهم الإشكالات، الإشكال الشرعي، الإشكال الشرعي يعني اعتقاد أن المشاركة السياسية هي مشاركة محرمة لا تجوز؛ لأنه هيترتب عليها أعلى درجات الولاء والموالاة للكافرين، لغير المسلمين، لأنه سيترتب عليها إقرار لهذه الأحزاب على بعض مبادئ أو أفكار في غالبها تتعارض مع الإسلام؛ فيعتقد المسلم أنه إذا شارك أو إذا كان عضواً في هذه الأحزاب أنه يقر هذا الحزب على المبدأ أو الفكرة التي تتعارض مع الإسلام، فيبدو ذلك صحيحاً دكتور؟
يعني اليوم مثل المثال الذي طرحته قبل قليل، أنه موضوع الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، هل يستطيع أي مسلم مهما وصل في مرتبة مثلاً قانونية أو سياسية في دول الغرب أن يمنع الحرية المطلقة اللي موجودة في بلاد الغرب؟
كلا، نحن لا نريد أن نمنع الحرية، ولكن نريد أن نستثمر هذه الحرية في إيصال أصواتنا؛ لأنه أنت إذا لم تشارك سياسياً صوتك لن يصل، وكل الذي ستفعله بعدم المشاركة هو أنك ستتخلى عن إيجابيتك كمسلم يأمرك الإسلام والدين بأن تكون إيجابياً وأن تكون فاعلاً في الحياة، هو أن هذه القوانين ستمضي ستمضي، بل ستتضاعف وتزيد وتقيد من حريات المسلمين أكثر فأكثر، هو مزيد من الإشكالات على الوجود الإسلامي في الغرب وعلى المجتمعات الغربية.
نعود لفكرة موضوع الولاء والبراءة أو القبول بمبادئ العلمانية الغربية، قد يشعر الإنسان بالحرج، المسلم، إذا كان مثلاً في موقع سلطة، ولكنه لن يستطيع أن يحاسب شخص أساء لجناب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً على سبيل المثال.
نحن نريد دائماً في خطابنا أن نرسخ لمبدأ أو لمفهوم المواطنة وإعلاء سلطة أو دولة القانون.
نحن في دولة القانون نعيش في هذه البلاد كمواطنين لنا حقوق وعلينا واجبات، فنحن نؤدي الواجبات المطلوبة منا ونطالب بالحقوق التي لنا في هذا المجتمع.
من مقتضيات المواطنة المشاركة والفعل السياسي. عندك إشكال ما مع أي فكرة أو مع أي قانون أو مع أي مبدأ طرح، يمكن أن تتعامل معه أو تتعاطى معه في حدود وفي إطار الإمكانات التي منحك إياها القانون، وهي إمكانات كثيرة جداً.
إنما فكرة أنك تريد أن تستفيد من القانون فيما ينفعك وفيما فيه مصلحة لك أو للمسلمين، وعندما يأتي القانون وينتج عن توظيفه بشكل ما من الأشكال نعم أضرار أو إساءة لك أو لدينك أو لمعتقدك، فتريد أن تعترض وتقول: “القانون لا يفيدني في هذه الحالة”.
ولذلك في مثل هذا المثال الذي طرحت، التعامل معه يجب أن يكون قانونياً، يجب أن يكون فنّا، يجب أن يكون حضارياً في إطار فهم المنظومة الغربية وفلسفتها وسياستها وكيف تتعامل.
نعم، إذا أردت أن نتحدث في موضوع الولاء والبراء وعلاقته بالمشاركة السياسية ؛ كيف لا يكون هناك تعارض عندما أشارك في مبادئه العلمانية والمبادئ التي تتعارض في كثير من جوانبها مع الإسلام؟
فكرة الولاء والبراء تقوم على مفهوم بسيط جداً يتبناه الخطاب العام كثير من الشيوخ والدعاة، وهو الولاء للمؤمنين، الولاء والمحبة للمؤمنين، والبراء والبراءة من الكافرين.
فإذا كان المسلم يعيش في مجتمعات غربية أغلبيتها وأكثريتها غير مسلمين، وقوانينها لا تنطلق من مبادئ الإسلام أو من نصوص الإسلام، معناه أنه هذه أكبر بيئة يجب أن يظهر فيها مفهوم البراءة من الكافرين.
البراءة من الكافرين يقتضي ألا أشارك سياسياً، ألا أكون عضواً في حزب، ألا أكون مسؤولاً في حزب، ألا أصوت لهذا الحزب أو لذاك الحزب؛ لأن هذه أعلى درجات الولاء وأعلى درجات التأييد. مقتضى البراء أن أتبرأ من هذه الأحزاب.
فكيف تطالبني بالمشاركة السياسية والحال كما قلت؟
هذا المفهوم في الحقيقة من أكثر المفاهيم التي ظلمت كثير من القضايا في السياق الغربي ومنها قضية المشاركة السياسية.
وأقول باختصار: إنه مفهوم الولاء والبراء يجب أن ينحصر في البراء من الكافرين المحاربين، المعاندين، الجاحدين لرسالة الإسلام، اللي بينهم وبين المسلمين عداوة.
هل هذا المفهوم ينطبق على الوجود الإسلامي في الغرب وكونه علاقة المسلم الذي يعيش في الغرب هي علاقة التصارع وعلاقة المحاربة لغير المسلمين؟ هذا كلام غير صحيح.
المسألة موجودة بحدود دنيا مثل ما يحصل في فرنسا مثلاً، وبعض التصرفات في أمريكا أحياناً.
نحن يجب أن نفرق بين التوجهات السياسية للحكومات والأنظمة التي تسعى دائماً إلى الاستقطاب الشعبي بين هذا الحزب وبين هذا الحزب، وتتسمم الأجواء ويكون المسلمون بكل أسف هم الضحية في مثل هذه الصراعات والتجاذبات السياسية بما أنهم أقلية، وبين النمط العام للشعوب الأوروبية.
الشعوب الأوروبية في مجملها شعوب مسالمة، يعيشون مع المسلمين كجيران لهم، كزملاء لهم في العمل والوظائف، كزملاء لهم في الدراسة، كـأساتذة يشرفون على الطلاب والدارسين المسلمين في الجامعات؛ بهذه الحدود يتعامل المسلمون مع غير المسلمين في هذه المجتمعات.
أنا أسوق هنا نصاً واضحاً وأقف مع حدث مهم جداً في السيرة النبوية: النص في آية الممتحنة، أنا أعتبره يشكل دستوراً ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”.
الآية صريحة وواضحة. “إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وظاهروا على إخراجكم وأخرجوكم من دياركم أن تولوهم”.
هل هذا المعنى الآية الأولى هي التي تنطبق على الوجود الإسلامي في الغرب أم الآية الثانية؟
الأولى بطبيعة الحال.
أنا دائماً أطرح هذا السؤال، أقول: ماذا فعلت أوروبا وماذا فعل الغرب مع الهجرات ومع المهاجرين الجدد أو اللاجئين الذين هاجروا إليها؟
إذا قارنا سلوك الدول الغربية بسلوك الدول العربية الإسلامية، اللي مرجعيتها في دستورها كما تقول الشريعة الإسلامية، المسافة كبيرة جداً بين هذا وبين ذاك.
إذاً مفهوم الولاء والبراء لا علاقة له بالمشاركة السياسية.
أسوق مثالاً أوضح من هذا المثال:
الصحابة عندما هاجروا إلى الحبشة، هجرتهم تتشابه إلى حد كبير مع الوجود الإسلامي في الغرب.
كانوا أقلية دينية، مسلمون يعيشون وسط أكثرية تخالفهم في الدين، غير مسلمة، يخضعون لسلطان وقانون غير إسلامي، ملكهم غير مسلم.
طيب ماذا فعلوا؟
فعلوا أكثر من المشاركة السياسية التي نطالب المسلمين بها اليوم في الغرب.
قامت ثورة مسلحة داخلية ضد النجاشي، ابن أخوه خرج ينازعه في ملكه. طيب ماذا فعل المسلمون؟
والله كان يمكن أن يقولوا: “نحن أقلية مستضعفة لا حيلة لنا، مالنا علاقة، لو أن ابن أخيه هو الذي انتصر عليه، نكون قد خسرنا المعركة، خلينا ننتظر نتفرج، إذا انتصر هذا أو ذاك، حتى يحافظوا ويكون عندهم ألف تبرير، إنما هم يثبتون المبدأ.
فذهب سيدنا جعفر بن أبي طالب ممثل الصحابة وعرض على النجاشي أن يقاتل معهم.
تخيل! نحن نطالب المسلمين اليوم أن يشاركوا سياسياً مشاركة سلمية هادئة، وهو يذهب يعرض على حاكم غير مسلم لكنه عادل، سيقاتلون تحت رايته، يمكن أن يقتلوا، ومع ذلك قالوا: “نحن نريد أن نقاتل معه”.
لأنه كان حاكماً عاقلاً ومتزناً سياسياً، رفض هذه المشاركة، ربما ستؤثر عليه داخلياً، ربما وزنها بهذا الشكل، لكن المهم تصرف سيدنا جعفر، ولا شك أن ما كان يصدر من الصحابة في الحبشة كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه خطأ كان سيصوّبه لهم؛ لأن الزمان زمان تشريع.
السيدة أم سلمة تقول: “ما فرحنا منذ هاجرنا بشيء كفرحنا بظهور النجاشي على الرجل الذي خرج ينازعه في ملكه”.
وتقول أيضاً: “وما حزنا حزناً قط منذ هاجرنا كحزننا لخروج هذا الرجل على النجاشي ينازعه في ملكه”.
يعني أهم حدثين كانا سبباً في الحزن والفرح في سنوات الهجرة كلها هو يوم المصاب والانقلاب، إذا صحت التسمية، ويوم الانتصار وإفشال هذا الانقلاب على الحاكم أو الملك العادل.
وإسلام النجاشي في هذا الزمن لم يكن معروفاً إنما كان بعد ذلك، لكن قضيتي الأساسية هنا هو سلوك الصحابة.
أي نعم، هذه أعلى درجات المواطنة والانتماء رغم التوقيت، أعلى درجات ما هو أكبر بكثير من المشاركة السياسية.
نحن نقول للمسلمين: “شاركوا سياسياً وأنتم المستفيد الأكبر من هذه المشاركة”.
دكتور، ذكرت في البداية أن الحكم الخاص بالمشاركة السياسية للمسلمين في الغرب يدور بين الإباحة والندب والوجوب، فكيف تكون هذه الأحكام موجودة في أي حالات وفي أي سياقات؟
طبعاً المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عندما أصدر هذا القرار المبني على دراسات واستطلاعات، وليس من الجانب الشرعي فقط، وإنما أيضاً من الجانب السياسي والجانب التاريخي، للإبحار في العقلية الغربية والشخصية الغربية، وكيف يمكن أن تكون مشاركة المسلمين سياسياً لها أثر ليس فقط على الوجود الإسلامي في الغرب، وإنما على المجتمعات الغربية؛ لأننا دائماً نتحدث عن القصد الأعظم من المشاركة السياسية ليس فقط حماية مكاسب ومصالح المسلمين في الغرب، وإنما حماية قيم المجتمع، حراسة قيم المجتمع.
نعم. إن الوجود الإسلامي في الغرب يجب أن يكون حارساً أميناً على هذه القيم المشتركة بين الإسلام وبين الأديان الأخرى، وهي قيم كثيرة جداً: قيمة الحرية، العدل، المساواة، التعددية الثقافية.
هذه القيم، خطاب الأحزاب اليمينية المتطرفة اليوم يشكل عدواناً عليها.
عندما يشارك المسلمون سياسياً مع العقلاء من شعوب البلدان الأوروبية، فإنهم يحمون هذه القيم التي يمكن أن يشكل استمرار العدوان عليها إلى أن تصبح الدول الغربية في مأزق إشكالي كبير جداً ينذر بخطر على تقدمها وكونها نموذجاً في الحرية ونموذجاً في التقدم والتحضر وإلى آخره.
فالمجلس الأوروبي للإفتاء عندما أصدر هذا القرار قام بدراسات واسعة ليس فقط من الزاوية الشرعية أو بالرجوع أو النظر في النصوص الشرعية، وإنما بالنظر في السياقات والمعطيات الأخرى.
قضية الوجوب والندب والإباحة:
قرار المجلس الأوروبي للإفتاء صدر منذ سنوات بعيدة، لم تكن هناك هذه المتغيرات التي حدثت في العالم والمتغيرات السياسية التي وقعت في السياق الغربي تحديداً اليوم.
وهذا من توفيق الله سبحانه وتعالى للمجلس أن يذكر هذا الكلام.
لأني لا أستطيع أن أقول أمام التحديات السياسية والواقعية للمسلمين اليوم إن المشاركة مباحة.
ما معنى مباحة؟ من يشارك يشارك، والذي يترك المشاركة يتركها. لا إشكال ولا شيء عليه.
الفقيه الحق الذي يعرف تماماً ويدرك الواقع السياسي في الغرب، لا يتردد اليوم أن يقول بوجوب المشاركة.
لماذا؟ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإذا كانت حماية قيم المجتمع، حماية الوجود الإسلامي في الغرب، حماية المكاسب التي كسبها المسلمون في الغرب، إذا كان كل هذا واجب، وهو لا يتم إلا بالمشاركة السياسية، فلا يتردد الفقيه أن يقول إن المشاركة السياسية واجبة.
إذا كانت الأمور على السعة والتحديات قليلة، ومشاركة المسلمين لن يكون لها تأثير ولن يكون لها أثر، فيمكن أن يقال وقتها إن المشاركة مندوبة أو مباحة أو مشروعة أو كذا إلى آخره.
لكن أمام هذا الواقع وأمام هذه التحديات والإشكالات يجب أن يقول للمسلمين: “إن عليكم أن يجب عليكم أن تشاركوا”.
فالفترة التي قسمت المشاركة إلى هذا التقسيم أرادت أن تطلب من لجان الفتوى المحلية والمشايخ والأئمة المحليين أن يحققوا المناط، يمرون بها.
يعني فيقول: “الآن يناسبنا أن نقول بندبها، يناسبنا أن نقول بإباحتها أو مشروعيتها”.
الآن يناسبنا أن نقول بوجوبها. والسياق العام يوجب المشاركة اليوم.
نعم، وقد يختلف هذا من بلد إلى آخر ؟
نعم، يختلف بطبيعة الحال، ولكن السياق الأوروبي العام الآن يكاد يكون متشابهاً.
من يتابع اليوم في الإعلام دكتور، يجد مسلمين في جميع الأحزاب الغربية، يمينية متطرفة، يسارية معتدلة، وسط إلى آخره، فالمسلم المواطن العادي اليوم كيف سيختار هذا الحزب عن هذا؟
هذا سيأخذنا إلى الإجابة على سؤال مهم: يختار المشاركة الفاعلة والعمل والانضمام إلى أي حزب من الأحزاب القائمة أو التصويت أو التصويت لأي حزب من الأحزاب القائمة أو تأسيس أصلاً حزب. بعض المسلمين يقولون، وبعض المسلمين فعلوا هذا الأمر وأنا ضد هذه الفكرة في الحقيقة، ضد تأسيس حزب إسلامي.
نعم، ضد هذه الفكرة أولاً/ لأنها لا تناسب العقلية أو الشخصية أو الثقافة الغربية.
ثانياً/ لا تستطيع هذه الأحزاب أن تصل إلى منافسة حقيقية يمكن أن تكون مؤثرة، لا تكرس مفهوم أو فكرة المواطنة التي نتحدث عنها، وإنما تكرس مفهوم أو فكرة الانعزالية.
فـأنا عندي مدرسة إسلامية خاصة بي، وعندي حزب إسلامي خاص بي، وعندي طعام ولحوم خاصة بي، وعندي كذا، فـتؤسس لفكرة الانعزال عن المجتمع.
ولذلك أنا حتى في المدارس لا أدعم فكرة أن تكون هناك مدارس إسلامية بهذا العنوان، وإنما أن يشارك المسلمون في مجالس الآباء وفي صناعة القرار السياسي، وأن تُحترم الخصوصية الدينية للمسلمين داخل المدارس، داخل الحضانات، داخل المؤسسات المختلفة من خلال فهم طبيعة المسلمين، خصوصياتهم، كذا كذا إلى آخره، ولكن أن يستقل.
أليس هذا شيء قد يكون فيه خطورة على الجيل المسلم الناشئ؟
على العكس تماماً، الذي يحفظ الهوية هو هذا التوجه الذي أدعو إليه.
طبعاً هذه وجهة نظري، هناك وجهات نظر تخالف هذا الأمر، وهناك مسلمون بالفعل أسسوا أحزابا وانخرطوا فيها ومدارس أيضاً إسلامية، وكل هذا موجود والقانون يتيح هذه الفرصة.
الإجابة العامة على هذا السؤال الذي طرح هو إعمال ما نسميه بـ”فقه الموازنات”.
فقه الموازنات بمعنى أن أوازن بين المصالح والمفاسد، وبين المفاسد والمفاسد.
فيمكن أن أرتكب المفسدة الأدنى لأحمي المجتمع وأحمي المسلمين من المفسدة الأكبر والمفسدة الأعظم.
نحن نقرأ جميعاً سورة الكهف في كل يوم جمعة، في قصة موسى والخضر من أعظم وأروع القصص التي يتجلى فيها مفهوم ومعنى وقيمة “فقه الموازنات”.
هل يتردد أحد أن ينتهي إلى أن قتل الغلام مفسدة؟
هل يتردد أحد أن ينتهي إلى أن خرق السفينة مفسدة؟
لكن لماذا فعلها؟
بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم جاء موسى ليتعلمه منه.
لماذا؟
لماذا كانت هذه مفسدة، أُقر عليها ونحن نقرأها في القرآن الكريم لنتعلم منها؟
ليحمي أصحاب السفينة وأهل القرية كلهم من المفسدة الأعظم والأكبر التي لن تكون خاصة، وإنما ستكون عامة.
ليحمي الأب والأم والمجتمع من مفسدة هذا الابن الفاسق، بما آتاه الله سبحانه وتعالى من علم، وليثبت هذه الفكرة التي ترجمها الفقهاء في قاعدة فقهية جليلة: “الميسور لا يسقط بالمعسور”، بمعنى أنه إذا كنت أنا عاجز أو لا قدرة لي على وجود حزب مبادئه متوافقة تماماً مع مبادئ الإسلام، هذا غير موجود أو هو بالفعل غير موجود، فتقول لي: “خلاص يبقى اترك كل شيء”.
أنا أقول لك: “إذا كنت عاجزاً عن القيام في الصلاة تسقط عنك الصلاة؟”
إذا كنت عاجزاً عن الوضوء للصلاة تسقط عنك الصلاة؟
إذا كنت مبتور الذراع لا تستطيع أن تتوضأ وتغسل الأعضاء التي أمرك الله سبحانه وتعالى بها، تترك الصلاة؟
تأتي هذه القاعدة: “الميسور المقدور عليه لا يسقط بالمعسور”.
فإذا كنت قادراً على التصويت لحزب مفاسده أقل، فأنت قادر.
فهذا ميسور لا يسقط بالمعسور، وهو الصورة المثالية الكاملة.
فأنا أدخل بـ”فقه الموازنات” أن أدرس برنامج الأحزاب.
والمؤسسات الإسلامية في الغرب قامت بجهد رائع جداً، أرسلت مجموعة أسئلة لهذه الأحزاب كلها: “ما موقفكم من كذا؟ ما موقفكم من كذا؟ ماذا تقولون في كذا؟” ما موقفكم حتى من قضايا، القضايا التي تشغل المجتمع وتشغل العالم، ملف البيئة مثلاً على سبيل المثال؟
هناك أحزاب برامجها ومواقفها في غاية الروعة، تتوافق تماماً مع مبادئ الإسلام في قضية حماية البيئة، وهناك أحزاب أخرى تجعل هذه القضية في ذيل اهتماماتها.
المسلم الواعي لدينه الذي يشارك سياسياً سيرجح بلا شك الحزب الذي يجعل قضية البيئة وملف البيئة في صدارة اهتماماته.
هناك أحزاب تهتم وتركز على ملف الأسرة على سبيل المثال.
ملف الأسرة ملف مركزي في المفهوم الإسلامي وفي المنظومة الإسلامية.
أقول أيضاً: تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة: أنا أفترض مثلاً أن حزباً من الأحزاب يتبنى توجهاً يعارض فيه مصلحة جزئية من مصالح المسلمين، فيعارض المآذن للمساجد مثلاً، أو يعارض النقاب للمسلمات.
مع أني ضد النقاب كاختيار فقهي في عالم اليوم، وضده أكثر كاختيار فقهي في المجتمعات الغربية، لكن لكن أشدد على حرية المرأة في اللباس، حرية المرأة في أن تختار ما تشاء من اللباس حتى ولو كان تغطية الوجه، شريطة ألا يضر بأمن المجتمع وسلامته، لكن في عالم اليوم بشكل عام، في المجتمعات الغربية بشكل خاص، تغطية المرأة لوجهها لا يناسب أبداً أبداً.
فنفترض أن حزباً من الأحزاب في برنامجه هذه الخطوات وهذا موجود بالفعل، لكن برنامجه فيما يتصل بالشأن العام، فيما يتصل بالمصالح العامة، فيما يتصل بمصالح المجتمع العامة، من أروع ما يكون توافقاً مع مبادئ الإسلام.
فأنا هنا أقدم المصلحة العامة على المصلحة الجزئية الخاصة بالمسلمين، وهذا يعكس فكرة الوعي السياسي لدى المسلم ألا ينخدع بالشعارات؛ لأنه يمكن أن أحزاباً تأتي تدغدغ مشاعر المسلمين أو تستقطب أصواتهم بفكرة بسيطة أو تافهة، ولكن هو عنده خراب وعنده فساد في الأمور التي تتصل بالشأن العام وتتصل بالمصالح العامة.
هنا يجب أن يكون المسلم واعياً للانتخاب أو التصويت أو المشاركة، في من فرصته أكبر.
يمكن أن نضع معياراً آخر أيضاً، وهو معيار من يكون التصويت له ضامناً أو مؤكداً أنه سيفوز مثلاً.
فعندي مثلاً حزب من الأحزاب مبادئه جيدة، أو مرشح مبادئه جيدة وشخصيته جيدة وشفاف وإلى آخره، ولكن فرصته ضعيفة جداً في أن يفوز أو أن يحقق شيئاً.
إذا وجّهت المسلمين إلى أن يصوتوا له أو قام المسلمون بالتصويت له أو تكتلوا للتصويت له، تفتتت أصواتهم وضاعت وخسر الحزب الأقوى الذي كان يمكن فعلاً أن يكون له أثر في إضافة شيء إيجابي للمجتمع وللمسلمين.
هذا معيار آخر من المعايير المهمة في قضية الاختيار والمفاضلة والموازنة بين الأحزاب وبين الأفراد.
لكن ليس كل الناس يمكنهم أن يميزوا بهذه الطريقة دكتور، هل هناك طرق ممكن أن يستفيد منها المسلمون في الغرب ليعرفوا أي حزب أفضل من الحزب الآخر؟
هذه الدراسات التي ذكرتها هل هي موجودة يستطيع المسلم أن يعود لها في مكان ما؟
أنا أشرت في مقدمة الحديث إلى أن الوعي السياسي للمسلمين بدأ يتطور. نعم، وتطور تطوراً ملحوظاً.
الإشكال الذي نأخذه على هذا التطور أو هذا الوعي أنه لا يناسب حجم التحديات وحجم المسلمين والحريات الموجودة.
ما دام تطور، إذن نحن في الطريق الصحيح، وفي المسار الصحيح.
المؤسسات الإسلامية عليها دور، المؤسسات الإفتائية والاجتهادية عليها دور، المساجد والمؤسسات الدعوية أيضاً عليها دور.
أصحاب الفكر والوعي، خاصة الشباب والأجيال الجديدة التي ولدت وازدادت في الغرب أيضاً، تحمل دوراً كبيراً؛ لأنها تعرف اللغة وتعرف الثقافة وتعرف روح المجتمع، فتستطيع أن تخاطب الناس بلغتها وبروح ثقافتها بشكل أفضل من غيرهم.
لا بد أن يكون عندنا تنظيم للمناشط التي ترسخ هذه الفكرة، فكرة الوعي السياسي لدى المسلمين، تعميق هذا الأمر، أي إشكالية موجودة من الإشكاليات التي طرحناها نناقشها.
أذكر أني دُعيت إلى ندوة في مسجد من المساجد في ألمانيا، وهذا المسجد أغلب جمهوره من الشباب الذين ولدوا وازدادوا في الغرب، طلبوا مني أن أؤصل للمشاركة السياسية، ما حكمها، ما الأدلة على مشروعية المشاركة.
قلت لهم: “تخيلت أن تكون هذه الإشكالية في المساجد اللي جمهورها أغلبه عربي، ولكن في مسجد مثلكم يفترض أنكم تجاوزتم هذه الإشكالية”.
قالوا: “لا، الإشكالية عندنا أكبر من المساجد الأخرى”.
طبعاً هذا نتيجة أيضاً الفتاوى الوافدة أو المستوردة.
ذهبت إليهم وطبعاً استغرب الشباب طرحي في بداية الأمر، ولما بدأت أسوق لهم الأدلة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية وأوضح لهم شيئاً فشيئاً، بدأت القناعات تتغير.
على الأقل من كان يرى التحريم صار يتوقف أو يرى المشروعية وهذا كسب بالنسبة لي في الحقيقة.
أشير هنا إلى أن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث له تطبيق موجود على الهواتف اسمه “الدليل الفقهي لمسلمي أوروبا” أو “يورو فتوى”، يمكن تحميله مجانياً ويعمل بدون إنترنت، والآن النسخة الموجودة منه بالعربية والإنجليزية والإسبانية، وقريباً إن شاء الله سندخل اللغة البرتغالية والفرنسية والألمانية والألبانية فيصبح التطبيق بثمان لغات، وهذه الفتوى أو القرار الخاص بالمشاركة السياسية موجود على هذا التطبيق، يمكن للمسلمين أن يرجعوا إليه؛ لأنه يحملهم المسؤولية تجاه المجتمع وتجاه مؤسساته.
موضوع المشاركة السياسية هل هو على إطلاقه بدون حدود في كل المناصب وفي كل الأماكن؟ أم هناك تفصيل من مكان إلى آخر؟ مثلاً حتى يتضح السؤال بشكل أكبر، قد يرى البعض بأنه مثلاً المشاركة البسيطة في مجالس البلدية مثلاً أو في الهيئات الولايات الخاصة قد يكون مقبولاً، فيما ليس هو مقبول مثلاً في المجالس البرلمانية أو الرئاسية وما إلى ذلك؛ لأنه هنا سيبدأ الإنسان المسلم يتنازل أكثر عن عن بعض مبادئه، مثلاً فيما يتعلق حتى بقضايا أمته، نرى اليوم بعض المرشحين المسلمين مثلاً في أمريكا على سبيل المثال يذكرون ولا مانع لديهم مثلاً من فكرة وجود حق لليهود مثلاً في فلسطين أو في قيام دولة إسرائيل وما إلى ذلك. هذا مثال وكثير من الأمثلة الأخرى.
طبعاً أنت انتقلت هنا من مستوى أو من مرحلة ما قبل الوصول إلى تولي الولاية.
الآن افترضت أنه وصل إلى الولاية وبدأ في ممارساته يعارض أو يناقض مبدأ من المبادئ الإسلامية في ملف من الملفات أو في قضية من القضايا، القضية الفلسطينية على سبيل المثال.
أنا قضيتي الأساسية اللي هي محل أو موضوع الحلقة الآن هي الفعل السياسي، الوعي السياسي، المشاركة السياسية بمفهومها الواسع الذي نتحدث عنه.
نعم، هي مطلقة ومفتوحة، وأؤكد هنا أيضاً بما أنك سألت عن هل هي مقيدة؟ بعض الناس يعتقد أن المرأة لا يجوز لها أن تشارك أو أن تتولى الولايات أو إن قُبلت في الولايات تقبل في الولايات الصغيرة أو في الولايات المحدودة.
كلا، المشاركة السياسية وقبول الولايات والسعي إليها هو أمر مطلق، يستوي فيه الرجل والمرأة وإلى أي مستوى من المستويات.
إلى أي مستوى من المستويات، ليس هناك تقييد؛ لأن القضية كلها المشاركة السياسية هي جزء لا يتجزأ من دور ورسالة المسلم الإصلاحية.
فالمسلم يريد أن يسعى إلى تولي الولاية ليقوم بالدور الإصلاحي، وبدوره كمواطن فاعل في المجتمع.
لكن الأمر يحتاج إلى حكمة ويحتاج إلى فقه؛ قد لا يكون من الحكمة أبداً أن يتصدر أو أن يطلب مسلم الولاية في بلد من البلدان أو في مدينة من المدن؛ لأن المجتمع سيتحسس من هذا الأمر أو لن يتفهمه.
إنما إذا بتسألني عن الموقف الشرعي، الموقف الشرعي لا يرى أي إشكال في هذا الأمر، ولنا في سيدنا يوسف عليه السلام النموذج والقدوة.
سيدنا يوسف هو الذي طلب الولاية، هو الذي سألها، قال: “اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ”وقد طلب ولاية غير مسلمة، مش بس في دولة غير مسلمة، في دولة غير مسلمة وتعرض فيها للظلم وتعرض فيها للسجن، وكان الحل الذي أنقذهم من المجاعة كان الحل بيده هو، وهو تفسير الرؤيا المنامية للملك، ومع ذلك لم يتردد في إنقاذهم وفي قبول الولاية وفي العمل بكل قوة.
رسالة المسلم الإصلاحية هي قضية يجب أن تظهر في موضوع المشاركة السياسية.
أذكر هنا حديثاً مهماً جداً في السياق الغربي، وهو حديث السفينة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً. فلو تركوهم يعني الذين في القاع لو تركوهم يعني يخرقون السفينة لهلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً”.
هذا حديث ينطبق على الوجود الإسلامي في الغرب: المسلمون في الغرب في سفينة واحدة هي سفينة المجتمع.
رأوا أحزاباً أو أفراداً متطرفة في خطابها أو في أفكارها تخرق السفينة بخطابها وبما تطرحه.
فلو امتنعوا عن المشاركة السياسية، امتناعهم هو أنهم رأوا من يخرق السفينة ولم يأخذوا على يده.
إذا لا قدر الله، غرقت السفينة، لن تغرق بمن خرقوها فقط، بالمتطرفين، إنما ستغرق بالجميع.
ولذلك المشاركة السياسية هي أعلى درجات وصور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأعلى صورة من الصور الحضارية.
وتلك أهم خصيصة اختصت بها أمتنا المحمدية الإسلامية: “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ”.
المشاركة السياسية، أعلى درجات التعاون على البر والتقوى والامتناع عن التعاون على الإثم والعدوان: “وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ”.
المشاركة السياسية هي درجة من درجات الشهادة، والله سبحانه وتعالى دعا من رأى شيئاً أن يشهد بما رأى: “وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا”. و”لَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ”، و”وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ”.
أنا عندما أرى حزباً أو مرشحاً كفأ لقيادة البلاد والنجاة بها من أزماتها الاقتصادية، من أزماتها البيئية، الاجتماعية، إلى غير ذلك من الملفات، ولا أسانده بصوتي ولا أسانده بأشكال المساندة السياسية المختلفة، أنا في الحقيقة أتعاون بشكل غير مباشر على الإثم والعدوان، وأمتنع عن التعاون على البر والتقوى مع هذا الشخص ومع هذا المرشح، حتى لو كان مرشحاً أو حزباً غير مسلم.
لو وُضعت في حالة وهي أنه لا بد أن أتنازل عن مبدأ رئيسي في ديني حتى أحصل على منصب معين أو يرشحني هذا الحزب لمنصب معين، ماذا أفعل ؟
هذا ملف عريض جداً؛ لأنه لا بد أن يتضح لدى المسلمين الذين ندعوهم إلى المشاركة السياسية في الغرب خارطة الثوابت والمتغيرات، خارطة الدوائر المغلقة وخارطة الدوائر المرنة.
الدوائر المرنة التي تقبل الاختلاف، التي تقبل الاجتهاد، التي تقبل التأخر، والدوائر المغلقة التي تشكل ثوابت المسلم، القطعيات الدينية، القضايا الإجماعية التي أجمعت عليها الأمة، ما يعرف عند الأصوليين بـ”المعلوم من الدين بالضرورة”.
وهنا لا بد أن أفرق، إذا تبقى عندنا وقت، بين مستويين أو بين درجتين.
نحن طوال الحلقة نوازن بين حالة مفروضة علي ليس لي اختيار فيها، ليس لي اختيار في الأحزاب الموجودة، هذا هو المتاح.
ليس أمامي متاح إلا ارتكاب إحدى المفسدتين، وبين أنا مختار في الإقدام على المفسدة. هذا مستوى آخر من المستويات.
هنا أنا إذا كنت مختاراً في الإقدام على المفسدة فالأصل أن أتجنب الإقدام عليها. إذا كنت سأقدم على ارتكاب مفسدة لأحمي المجتمع وأحمي المسلمين من مفسدة أعظم منها، فيمكن أن أفعل هذا الأمر في إطار فقه الموازنات وفقه الأولويات المتفرع عن مبدأ الثوابت والمتغيرات مثلما أشرت.
إذاً ليس هناك حالة عامة، كل حالة لها خصوصيتها وحسب الموضوع.
بارك الله فيك دكتور، شكراً جزيلاً، ونسعد بك دائماً، وإن شاء الله تكون رسائل هذه الحلقة قد وصلت لجمهورنا في دول الغرب ولمن سيذهب إلى دول الغرب لاحقاً.