إرسل فتوى

المسلمون في الغرب بين القدوة والفتنة

المسلمون في الغرب بين القدوة والفتنةالاناة-والتوؤدة-صفات-يحبها-الله-ورسوله-1024x768 (نسخ)

يعيش المسلم في بلد أغلبيته غير مسلمة أمام تحدٍّ كبير وفرصة في الوقت ذاته.

التحدي هو أنه يُمثل الإسلام، فكل مسلم يعيش في هذه البلاد هو كتاب مفتوح عن الإسلام، وسفير له.

يمكن أن يكون رسول خير وسفيراً معبراً بحق عن الإسلام، أو يمكن أن يكون فتنة للذين كفروا، يصدّهم بقوله وفعله عن التفكير في الإسلام، فضلاً عن تصحيح الصور المغلوطة في أذهانهم عن دين الله تبارك وتعالى.

نريد أن نصل من خلال هذا الحديث وهذه المحاضرة إلى الإجابة على هذين السؤالين:

1- كيف السبيل لأن أكون كمسلم أعيش في الغرب قدوة؟

2- وكيف السبيل إلى أن أحمي نفسي وأسرتي ومن أعول من أن أكون فتنة للذين كفروا؟

المسلم القدوة هو المسلم الذي يقدّم الإسلام في رسالة صامتة دون أن يتكلم. هو الذي يجسّد الإسلام بحاله وأخلاقه وسلوكه، لا بأقواله وتصريحاته، وكذلك الجماعة المسلمة التي تعيش في الغرب.

قرأت كلمة قالها الشيخ علي الطنطاوي في كتاب من كتبه ونسبها لشيخ الإسلام ابن تيمية، مع أني لم أعثر عليها بنصها منسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولعله قرأها له وصاغها بقلمه أو بعبارته. قال فيها: “إن الصحابة نقلوا الأمم إلى الإسلام، ولم ينقلوا الإسلام إلى الأمم”.

وفرق كبير بين نقل الأمم إلى الإسلام ونقل الإسلام إلى الأمم.

الصحابة نقلوا الأمم إلى الإسلام عندما شاهدت الأمم سلوك وأخلاق وحال الصحابة.

ونحن اليوم نريد أن ننقل الإسلام في صورة معارف ومعلومات من خلال خطب وكتب مترجمة.

نريد أن نقدم بها الإسلام للأوروبيين ولغير المسلمين.

باختصار شديد، إذا أردنا أن نُعرّف بالإسلام في المجتمعات غير المسلمة، فخير وسيلة للتعريف بالإسلام هي أن يكون المسلم قدوة، بأن يجسّد الإسلام في حاله وفي أخلاقه.

نحن لا نريد من المسلمين الذين يعيشون في الغرب أكثر من أن يفهموا الإسلام وأن يعيشوا به.

إن فعل المسلمون هذا الأمر، ففهموا الإسلام وجسّدوا قيمه في أخلاقهم وفي معاملاتهم، سيعرّفون بالإسلام للمجتمع.

وأود هنا أن أنبه إلى أمرين:

الأمر الأول: هل يهدف الوجود الإسلامي في أوروبا أو في الغرب إلى أن يُسلم المجتمع؟

هل رؤيتنا وخطتنا الاستراتيجية في هذه البلاد هي أن ننقلها إلى الإسلام، وأن ندعو كل الأوربيين إلى الإسلام وأن يدخلوا فيه؟

هل هذا هو الهدف بالنسبة للوجود الإسلامي في أوروبا؟

أنا أقول: كلا.

إن هدفنا الأعظم هو أن نحافظ على تدين المسلمين، وأن نتوجه بالدعوة في المقام الأول إلى المسلمين أولًا.

نسبة التدين في واقع المسلمين في المجتمعات الأوروبية محدودة جداً.

عندنا دراسة تتحدث عن 15 إلى 20% لا تتجاوز هذه النسبة.

يعني أن أكثر من 80% من مجموع المسلمين في أوروبا لا يلتزمون بالإسلام.

نريد أن نشتغل على الـ80% بدلًا من أن نخرج إلى غير المسلمين وندعوهم إلى الإسلام.

وأنا لست مع السلوكيات التي يفعلها كثير من المسلمين بعاطفة، ويصورون من يدخل الإسلام ويكبرون وينشرون هذه المشاهد على مواقع التواصل بشكل كبير وواسع جداً.

هذه الصورة في الحقيقة لا تخدم الوجود الإسلامي في أوروبا، وتعطي صورة غير حقيقية عن واقع الدعوة وواقع حركة الإسلام في أوروبا، وتضخّم صورة غير حقيقية، ويوظّفها اليمين المتطرف استغلالًا لعواطف المسلمين في هذا الباب.

نحن نتحدث دائماً وننظر إلى من يدخلون في الإسلام، لكن لا ننظر إلى أمرين آخرين في غاية الخطورة:

الأمر الأول هو لا ننظر إلى من يخرجون من الإسلام من المسلمين.

ولا ننظر أيضاً في المرتبة الثانية إلى بقاء أو ثبات من دخل في الإسلام، وفرحنا وهللنا وكبرنا عندما دخل… لكن لا نفكر ولا نتابع حاله، ولا نفكر كيف نعلّمه الإسلام بعد أن دخل.

بمجرد أن يخرج من المسجد نسيناه ولا نعرف أين هو.

ماذا نفعل في النصوص التي تتحدث عن ظهور الإسلام؟

مثل قوله تعالى “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ” (سورة التوبة، الآية 33).

هذه الآية تكررت مرتين في القرآن الكريم: في سورة التوبة وسورة الصف.

وحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبشّر بظهور الإسلام في آخر الزمان: “ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام وذلًا يذل به الله الكفر”. حديث رواه ابن حبان في صحيحه.

أقول: إنه ليس من ضرورة ظهور الإسلام ظهور المسلمين. هذا يعني أن الإسلام سيظهر، لكن ليس معناه بالضرورة أن كل العالم يدخل الإسلام ويعتنقه.

قضيتنا الأولى هي أن ننجح بسلوكنا وأخلاقنا، وأن نكون قدوة في “البلاغ المبين”.

والبلاغ بلاغ الإسلام لا بد أن يكون مبيناً.

البلاغ المبين يتحقق بالقدوة وبالسلوك أكثر مما يتحقق بالحديث والكلام الكثير عن الإسلام.

الإشكالية التي لا ننتبه إليها هو أن الموقف والسلوك الذي نقوم به، سواء كان سلوكاً إيجابياً أو سلبياً، نحن نمارسه ونمضي، لكنه يفعل فعله وعمله بعد أن نمضي، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، بشهور وربما بسنين.

اعتناق امرأة ألمانية الإسلام عمرها 70 سنة:

حضرت حفلة اعتناق امرأة ألمانية الإسلام وعمرها 70 سنة، فكان الطبيعي جداً أن أطرح عليها السؤال: ما الذي يدفعك إلى التفكير في الإسلام وعمرك 70 سنة؟

قالت: “أنا أقرأ عن الإسلام منذ 30 سنة”.

قلنا لها: وما الذي دفعك إلى التفكير في بدء القراءة عن الإسلام قبل 30 سنة؟

قالت: “أنا أعمل رئيسة قسم للحالات الحرجة في مستشفى كبير في ألمانيا.

وكل المرضى عندي في القسم يائسون من الحياة، متبرّمون من المرض ومن الابتلاء.

يطلبون دائماً الخلاص بدواء يقتلهم.

يتحدثون: لماذا نحن فقط نُبتلى ولا نستمتع بالحياة مثل غيرنا؟

إلا امرأة واحدة، امرأة مغربية أمّية، أشدّهم ابتلاءً وأكثرهم صبراً. الابتسامة مرسومة على وجهها دائماً.

قلت لها: لماذا أنتِ من بين كل هؤلاء الناس مبتسمة وسعيدة رغم أن آلامك وابتلاءاتك شديدة؟

قالت لها: أنا مسلمة والله تعالى أمرني بالصبر عند الابتلاء، ووعدني بأجر عليه في الآخرة”.

وماتت في اليوم التالي.

بدأت هذه الممرضة تفكر: “ما هذا الدين الذي يجعل حياة هذه المرأة بهذا الجمال وبهذا الصبر وهي في هذه الحالة وفي هذه الصورة؟” فبدأت أقرأ عن الإسلام، لكن لم يكتمل لي الاقتناع العقلي وانشراح الصدر القلبي إلا بعد 30 سنة. “فأنا الآن أعتنق الإسلام”. هل درت هذه المرأة الأمّية بفعلها هذا أنها ستكون سفيرة للإسلام وستكون سبباً في هداية امرأة أخرى إلى دين الله سبحانه وتعالى؟

ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث عن قيمة الأخلاق ومنزلة الأخلاق في الإسلام في أحاديث جليلة عظيمة، منها مثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمن ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم”. حسن الخلق يوصلك إلى درجة الصائم القائم.

أنا تقديري أن المسلم الذي يعيش في أوروبا سيسأل بين يدي الله يوم القيامة سؤالين:

السؤال الأول: السؤال الذي سيسأله كل الناس “وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ” (سورة الصافات، الآية 24).

السؤال الثاني: هو المسؤولية الخاصة لوجوده في أوروبا حين يكون فتنة لغير المسلمين.

والنبي صلى الله عليه وسلم في كثير من النصوص والأحاديث يربط الأخلاق بالإيمان.

لأن التقسيم الذي درج عليه العلماء في تقسيم الإسلام إلى عقائد وعبادات وأخلاق يجعل الناس يستشعرون أن الأخلاق في مرتبة متأخرة، وبالتالي ليس لها أهمية مثل العقائد والعبادات.

وهذا غير صحيح. حديث النبي صلى الله عليه وسلم ربط الإيمان بالأخلاق دائماً. “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره”. “

جاره” مطلقة لتشمل الجار المسلم وغير المسلم.

كل الأحاديث التي وردت عن الجار في نصوص السنة النبوية كلها مطلقة لتشمل الجار المسلم وغير المسلم.

وكل الأخلاق التي أمر بها المسلم مع المسلم يخاطب بها كذلك مع غير المسلم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح يجسّد رسالة الإسلام كلها. “اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”.

لماذا هذا الحديث يلخص الإسلام؟

لأن الإسلام جاء لتنظيم علاقة الإنسان مع ربه: “اتق الله حيث ما كنت”.

واتبع السيئة الحسنة تمحها: مع نفسك.

ثم: “مع الناس”. المعالم الثلاثة موجودة في هذا الحديث.

مثلما قلنا: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره”. “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”.

الإيمان والأخلاق، الإيمان والأخلاق.

وأيضا في الحديث “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”. أنا أحب هنا في أوروبا أن أقول الرواية الأخرى الصحيحة أيضاً: “المسلم من سلم الناس من لسانه ويده”. الناس: كل الناس، مسلمين وغير مسلمين. وهي رواية صحيحة.

النقطة الثانية التي أود أن أنبه إليها هو: علينا كمسلمين نعيش في أوربا ألا نسقط في فخ أو في إشكالية نفعية.

يعني أننا نريد أن نظهر أخلاق الإسلام تمثيلاً، وليس انطلاقاً مبدئياً ذاتياً.

فنحن نفعل هذا رجاء أن يدخل الأوربيون إلى الإسلام.

طيب إذا تيقنت أن جاري الذي يشاهد أخلاقي لن يدخل الإسلام، هل معنى ذلك لا ألتزم بالأخلاق معه؟

كلا .ليس كذلك.

النبي صلى الله عليه وسلم قدوتنا لم يعلمنا هذا.

إنما كان التزامه بأخلاق الإسلام التزاماً مبدئياً، وليس التزاماً نفعياً.

لأن القرآن الكريم علّمه وعلّمنا أن الهدى هدى الله. “قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ” (سورة آل عمران، الآية 73).

“قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ” (سورة الأنعام، الآية 71).

“إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ” (سورة القصص، الآية 56).

قضية الهداية ودخول الإسلام هذه ليست بيدي ولا بيدك ولا بيد أي أحد.

لو كان أحدنا يملكها لملكها الأنبياء، لملكها نبينا صلى الله عليه وسلم مع أقرب أقربائه إليه، لملكها لوط مع زوجه، لملكها نوح مع ابنه. لكن الهدى هدى الله.

ولذلك، الرسول عليه الصلاة والسلام التزاماً بأخلاق الإسلام ترك ابن عمه عليّاً يؤدي الأمانات إلى أهل مكة الذين آذوه وطردوه وشتموه وسبّوه واتهموه بأبشع أنواع الاتهامات.

لو كانت المسألة مسألة نفعية ليست مبدئية، لقال: والله لا شأن لي بهم.

لقد فعلوا أقل ما يستحقونه هو أن أعاملهم بالمثل. لا شيء لهم عندي.

سيدنا يوسف عليه السلام ابتلي بالسجن وامتحن، لكن ماذا فعل؟

لما وقعت البلد في أزمة اقتصادية ومجاعة وهو في السجن، كان يمكن أن يعلّق تقديم الحل لهم على إخراجه والاعتذار له وطلب العفو منه، لأنه الحل عنده.

لكن مباشرة دون تردد، لأن هذه هي رسالة المسلم. رسالة المسلم رسالة إصلاحية، ولا يرد على الناس بذات الأذى الذي يصدر منهم له إن وقع هذا الأذى.

فمنطلقاتنا الأخلاقية هي منطلقات مبدئية وليست ذاتية، وليست منطلقات نفعية.

لا نسقط في هذا الفخ، لأن بعض الأوروبيين يقولون: “أنتم نفعيون. أنتم تلتزمون هذه الأخلاق وتمثلون هذا التمثيل أمامنا حتى ترغّبونا في الإسلام”.

أنا لا أريد أن أتوسع في التأصيل، ولكن سأركّز في هذه المحاضرة وفي هذا الحديث في الجزء الأول منها، وهو:

المسلم القدوة

وسأركزعلى نماذج عملية لمسلمين كانوا قدوة بأخلاقهم وليسوا دعاة، فغيروا صورة الإسلام في أذهان الأوروبيين، وإن لم يدخلوا الإسلام، أو غيروها وكانوا سبباً في هدايتهم إلى الإسلام.

مطلوب قسيس مسلم:

أول موقف وهو من أغرب المواقف والطرائف التي تعرضت للجزء الثاني منها في أوروبا.

الطرف الأول منها هو الدكتور أحمد خليفة، واحد من مشاهير الدعاة في ألمانيا، حدثني بها ووقعت له سنة 81 في ألمانيا.

قرأ إعلاناً في صحيفة ألمانية مكتوب فيه باللغة الألمانية: “مطلوب قسيس مسلم يعمّدني الإسلام”.

قرأ الإعلان بصوت مرتفع لزملائه في الغرفة في المركز الإسلامي، فأخذوا يضحكون على الإعلان، وأنه “قسيس مسلم” يعني يتندرون به، وكذا.

“وأنت القسيس المسلم ، أيها القسيس المسلم”، وكذا. قال: “لكني أخذت الأمر على محمل الجد، وتحركت فوراً.

ركبت سيارتي إلى العنوان، طرقت الباب فلم أجد أحداً.

طرقت على الجار ففتحت لي امرأة.

عندما وجدت ملامحي وهيئتي أغلقت الباب في وجهي.

تركت رسالة في بريده وقلت له: أنا القسيس المسلم، جئت بخصوص الإعلان، وهذا هو عنواني”.

قال: “ثم ركبت الحافلة التي تنطلق إلى الجامعة.

هو طالب دكتوراه يدرس في الجامعة. هذه الحافلة تمر في طريقها إلى المركز الإسلامي بعد الجامعة، لكن هو يقصد الجامعة.

قال: عندما وصلت الحافلة إلى الجامعة، أردت أن أنزل منها لم أستطع وكأني قيدت في المقعد”.

قلت: أكمل إلى المركز. وصل إلى المركز فوجد رسالة في البريد من صديق هذا الرجل الموجود في المستشفى، لأنه جاء بعده مباشرة إلى بيته فوجد الرسالة، قال: “اذهب بسيارتي بسرعة لأني أعلم حاجته وترقبه لهذا القسيس المسلم”.

فوجد الرسالة يقول: “إن الرجل بحاجة ماسة وعاجلة إليك، وهو موجود في المستشفى في الطابق وفي العنوان الفلاني”.

قال: “مباشرة ذهبت إليه”. أنا بعد ذلك لما أذكره بالقِصة يقول: “هذه القصة بالدقيقة”.

يعني لو تأخرت دقيقة ينتهي كل شيء. فذهبت إلى المستشفى ووجدت رجلًا في الغرفة خراطيم وأجهزة وأدوات عليه من كل اتجاه.

عندما رآني قام مستبشراً: “أنت القسيس المسلم؟” قلت له: “نعم، أنا القسيس المسلم”.

قال: “تعال عرفني الإسلام لأني أريد أن أكون مسلماً”.

قال له: “ما قصتك؟” قال: “عرفنا الإسلام أولاً ثم أحكي لك قصتي”.

فحدثه عن أركان الإسلام، كلما حدثه بركن من الأركان قال له: “كيف أطبقه؟”

يقول له: الصلاة مثلاً، يقول له: “لا أستطيع أن أصلي وأنا بهذه الحالة التي تراها”.

يقول له: “تستطيع أن تصلي وأنت جالس، وأنت متكئ، بعينك”.

يقول له: الزكاة مثلاً، يقول له: “طيب أنا عندي مبلغ كذا من المال كم يجب فيه؟”

قال له: “ادفع مبلغ كذا”. وهكذا.

فنطق بالشهادتين. قال له: “أنا الآن مسلم؟” قال له: “أنت الآن مسلم”.

قال له: “هل يلزمني أن أغير اسمي بعد أن دخلت الإسلام؟” قال له: “لا يلزمك، هذه مسألة ترجع إليك أنت”.

قال: “ولكني أريد أن أغير اسمي بعد دخول الإسلام”. قال له: “ماذا تريد أن تسمي نفسك؟” قال: “أريد أن أسمي نفسي حسن”.

قال: “لماذا حسن؟” قال له: هذه القصة. قال: “سافرت إلى المغرب سائحاً، فضللت الطريق وقابلني رجل بسيط مغربي واستضافني في بيته.

ظننت أنه يريد أن يضحك علي وأن يأخذ أموالي أو أن يقتلني.

فبعد أن أحضر طعام العشاء ونمت، تناومت يعني مثّلت أني نائم، لكني مستيقظ منتظر سيقتلني الآن بعد قليل.

في الصباح أحضر طعام الفطور وقدمه له.

قال له: ولما لم تقتلني؟ قال له: لماذا أقتلك؟ أنت ضيفي.

قال: يعني أنت استضفتني فقط؟ قال: نعم، عندنا الضيافة في الإسلام ثلاثة أيام، تبقى معي ثلاثة أيام هنا تأكل وتشرب وتقيم.

قال له: دون أن تأخذ مني مالاً؟ قال: لا آخذ منك مالاً ولا أريد منك شيئاً.

هذا أخلاق الإسلام، هذا كرم الإسلام”.

فبقي الرجل متأثراً بهذا الأمر.

ما الذي يحمل رجلاً لا يعرفني على أنه يستضيفني في بيته ثلاثة أيام ويطعمني ولا يأخذ مني أجراً؟

فبدأ يفكر في الإسلام.

فجاء رجل الدين عندهم اسمه قسيس، فقال: “هذا قسيس مسلم”.

وبدأت القصة وأسلم الرجل. في اليوم التالي اتصل الدكتور أحمد بالمستشفى وقال لهم: “أريد أن أسأل عن المريض فلان الذي جئت له بالأمس في غرفة كذا”.

قالوا له: “لقد مات بالأمس الساعة الثالثة وخمس دقائق”. يعني وهو على باب المستشفى قبل أن يغادر المستشفى مات الرجل بعد إسلامه بدقائق.

ذكرني بالصحابي الجليل سيدنا عمرو بن ثابت بن وقيش الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد يريد أن يُسلم، فأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم في قتال مع المشركين، فذهب يقاتل معهم فطعن طعنات وسقط بين الحياة والموت، والصحابي الذي جاء يتفقده في الجرحى سمعه ينطق بالشهادتين ثم يفارق الحياة.

وأبلغ النبي صلى الله عليه وسلم بخبره فقال: “هو من أهل الجنة”. قال الصحابة: “إنا لنعجب لرجل دخل الجنة ولم يسجد لله مرة”. عمل قليلاً وأجر كثيراً. هو نفس الشيء بالنسبة لحسن.

لم تتوقف القصة عند هذا الفصل. في محاضرة مثل هذه أتحدث قبل حوالي خمس سنوات تقريباً عن هذا الموضوع وذكرت هذه القصة.

أحد الشباب شباب المغاربة حاضر أمامي اتصل بأمه وحكى لها القصة.

قالت له: “يا ابني إن عمك حسن جاءه رجل ألماني وبات عنده ثلاثة أيام.

أظن من كم سنة؟ اتصل به لعله يكون هو”. فاتصل به وحدثه وحكى.

قال: “أرجو أن تحدث هذا الرجل وتسأله في أي سنة وقع هذا الأمر”.

فأعطيت الهاتف للدكتور أحمد خليفة واتصل به، قال له: “سنة كذا”. وأرسل له الصور، صورة قال له: “هو”.

واتضح أن هذا الرجل هو حسن الذي كان سبباً في إسلام حسن الألماني.

المفاجأة أن حسن المغربي رجل من عامة الناس لا يصلي، يدخّن السجائر، لا يلتزم بالإسلام.

عندما بلغته هذه القصة ماذا قال؟ “أنا بحالي هذا أتسبب في إسلام رجل ونقله من الكفر إلى الإسلام ومن الضلال إلى الهدى! والله هذه توبتي واستقامتي لله سبحانه وتعالى”.

فكان حسن المغربي سبباً في إسلام حسن الألماني، وكان حسن الألماني سبباً في هداية واستقامة حسن المغربي. وكل ذلك مفتاحه وبابه خلق واحد من أخلاق الإسلام.

قال الدكتور أحمد خليفة معلقاً وهو يشعر بقشعريرة ولا يملك عينه عندما يقول هذا الكلام: “أنا من أمنياتي في الجنة أن أرى لقاء الحسنين في الجنة، حسن الألماني وحسن المغربي، ولا أشك في لقائهما إن شاء الله في الجنة”.

حاج تركي لم يدفع أجرة المواصلات عشرين سنة:

موقف آخر حدثني به أحد إخواننا الأئمة الأتراك في ألمانيا: أن مسناً تركياً أراد أن يذهب لأداء فريضة الحج، فأراد أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى توبة صادقة.

ففكر بفطرته في التفريق بين حقوق الله وحقوق العباد.

بعض الناس يخلط ويظن أن حقوق العباد تُغتفر بمجرد التوبة الشفهية اللسانية، لكنه أدرك أن في مظلمة لشركة المواصلات الألمانية لا بد أن يتخلص منها لتقبل توبته وتصح حجته.

فذهب إلى شركة المواصلات الألمانية. عندنا النظام في ألمانيا أنك تركب الحافلة ومعك التذكرة اليومية أو الشهرية.

يمكن ألا يخرج كنترول تفتيش. يمكن أن يخرج مرة. لكن إذا خرج مرة ووجدك ليست معك البطاقة يغرمك 60 يورو.

فهو كان يركب بدون ما يقطع هذه التذاكر. والناس لها خبرة في هذا الموضوع يقول لك: “الكنترول يخرج في أول الشهر وفي آخره”.

ينبّه بعضهم هذا، وبعض الناس يتذاكى بهذا الموضوع.

أحد الإخوة من مصر جاء إلى ألمانيا، بقي فيها شهراً، وعندما عاد إلى مصر بهذا النظام قالوا له: “ما أفضل شيء عجبك في ألمانيا؟” قال لهم: “إن ركوب المواصلات ببلاش”.

هو الحقيقة ركوب المواصلات مش ببلاش، هو كان لا يدفع. لكن ركوب المواصلات مدفوع.

ولذلك أنا من الفتاوى التي أذكرها وبعض الناس يستغرب لها: من ركب الحافلة العامة التابعة للدولة أو لشركة المواصلات ولم يدفع، خلينا نحسّن الظن به، لم يدفع لأنه تأخر أو كان مستعجلاً أو إلى آخره، ماذا يفعل؟ يقول لك: “أتبرع بهذا المبلغ”. لا تتبرع بهذا المبلغ.

عليك أن تشتري بطاقة بنفس القيمة وتمزقها. لأن في خدمة قُدمت لك. ولو كل الناس عملوا هذا الكلام مع هذه الشركة أو مع الدولة، ما النتيجة؟

النتيجة الإضرار والإفلاس لهذه الشركة التي تقدم لك خدمة. وهل تقبل هذا الكلام أنت على نفسك لو كنت أنت صاحب هذه الشركة؟

المهم، الرجل بفطرته ذهب إلى المدير المسؤول للشركة وقال لهم: “أنا منذ 20 سنة أركب عندكم المواصلات الداخلية ولم أدفع.

قيّموا لي قيمة الركوب 20 سنة وسأدفعها”. ظنه يمزح.

“أنت جد؟ أنت تتكلم؟” قال: “نعم أنا متأكد”.

قالوا له: “كيف ستدفع؟” قال: “أدفع كاش الآن”.

فجلسوا مع بعضهم ودرسوا الأمر، قالوا: “هذا رجل صادق، وبصدقه نكافئه”.

فأصدروا قراراً بأن يعطوه بطاقة يركب بها مجاناً إلى أن يموت داخل المدينة.

قالوا له: “وقّع لنا هنا على أنك ستدفع كاش”. وهو يوقع على أنه متخيل أنه سيدفع ويجهّز المبلغ، فكان التوقيع على أن يأخذ بطاقة هدية مجانية.

جاء المسجد مثل مسجدكم المبارك وحكى للناس القصة، فالناس سُرت.

في واحد (فهلوِي) قاعد فاهم الموضوع جيدا. ثاني يوم راح على شركة المواصلات ، قال لهم: “أنا بقى لي 30 سنة أركب مجاناً عندكم، فعايز تحاسبوني”. قالوا له: “فعلاً 30 سنة؟” 

قالوا له: “طب هتدفع كاش ولا مجاناً؟”  قال لهم: “أدفع كاش”.

قالوا له: “إذن وقّع لنا هنا”. فوقّع على أنه يدفع، ودفع وغرم عن الـ30 سنة.

فنجا الأول بصدقه، وغرم الآخر بكذبه وتدليسه.

فانظر إلى صدق الرجل ماذا فعل؟ كيف أثر في الناس؟ كيف غير فكرتهم عن المسلمين؟

بغض النظر عن أنهم أسلموا أو لم يسلموا. نحن لم ينقل لنا من خلال هذا الإمام أنهم أسلموا أو لم يسلموا، لكن المهم هو كيف أثر هذا الموقف العملي في أولئك الناس.

امرأة فرنسية تمنع بناء مسجد:

حدثني واحد من مشاهير وكبار الدعاة في فرنسا أن المسلمين أخذوا موافقة على بناء مسجد كبير في حي من أحياء باريس الكبرى، وأخذوا كل التصاريح والأموال جاهزة وسيبدأون.

قادت امرأة حملة تحريضية ضد بناء المسجد وتنفيذ المشروع. والبلدية أمام الاحتجاجات الشعبية قالت: “نحن لا نستطيع أن نمضي في المشروع ولا نريد مشاكل وصدامات وكذا”.

فألغوا بناء المشروع وتنفيذه.

بعد فترة من الزمن، مرض كلب (أعزكم الله) هذه المرأة ونزلت باكية به الساعة الثالثة فجراً تذهب إلى المستشفى لإسعافه.

تصادف نزولها مع نزول طبيب بيطري مسلم خارج لصلاة الصبح.

فعندما رآها، وكان يعرفها، امرأة مشهورة في الحي وهي لا تعرفه، فأسعف كلبها وأنقذ حياته.

وبعد أن هدأت والتقطت أنفاسها واطمأنت على كلبها، دار حوار بينها وبين هذا الرجل، وعلمت أنه طبيب بيطري مسلم.

أول شيء تذكرته قالت: “إذاً أنت تضررت من المشروع الذي لم يُبنَ كمسجد لكم؟” قال لها: “نعم.

ولذلك أنا نزلت مبكراً في هذه الساعة حتى أقصد المسجد البعيد لأداء صلاة الصبح فيه”.

بدأت تفكر: “الرجل يتعامل معي بهذه الأخلاق، مع أن الأصل أنه عندما عرفني، نرجع إلى مسألة المبدئية لا النفعية.

لو كان نفعياً لقال هذه المرأة لا تستحق.

تذهب هي وكلبها إلى…” لكن قال: “لا”، وتعامل بأخلاق الإسلام معها، ومع الحيوان الذي أمرنا بالإحسان إليه وبالعطف عليه.

وإحسان رجل إلى كلب كان سبباً في دخوله الجنة.

فالمرأة قالت: “لا أستطيع أن أكفر أو أن أعوّض عما فعلت إضراراً بكم وبك أنت شخصياً، إلا أن أغير الصورة التي أوصلت أهل الحي إليها”.

وأخذت تقود حملة أخرى تصحيحية لصورة المسلمين لدى أهل الحي وضرورة أن نسمح لهم ببناء المسجد.

وتم تنفيذ المشروع وبناؤه للمسلمين بسبب موقف أخلاقي واحد لهذا الطبيب المسلم جزاه الله خيراً.

أحسن إلى العجوز فكتبت له كل أملاكها:

آخر موقف أذكره، لولا أني أعرف صاحبه ما صدقته، لأنه يعني تشعرون أن في مبالغة كبيرة جداً.

هذا الأخ عنده جارة ألمانية يحسن إليها ويتعامل معها، امرأة مسنة. ي

تعامل معها كما لو كانت أمه، وأولاده يحسنون إليها كما لو كانت جدتهم، وصارت جزءاً من العائلة.

تمرض، يذهبون إليها في المستشفى. لها أولاد لا يعطفون عليها ولا يسألون عنها مثلما يسأل هذا الأخ.

ولم يحدثها يوماً عن الإسلام. فماتت هذه المرأة. بعد يومين من موتها جاءت الشرطة إلى بيته وأخذت تسأله: “هل تعرف هذه المرأة؟ هل وقعت بينك وبينها مشكلة؟ هل تشاجرتم؟ هل هل؟”

قال: “لا، بالعكس. كانت امرأة كأنها واحدة من أفراد العائلة، ونحبها ونحسن إليها وكذا”.

لما اطمأنت الشرطة إلى عدم صحة دعوى أولادها قالت له: “إذاً عليك أن تأتي معنا لتتسلم ما كتبته لك هذه المرأة. لقد كتبت لك كامل ثروتها وحرمت أولادها منها”.

كم ثروة هذه المرأة؟ 16 عمارة، 16 بناية. صار هذا الأخ من الأثرياء الأغنياء. كلما كلمته يقول لي: “أنا الآن والله ليس لدي وقت، لأني لا بد أن أذهب إلى المستأجر الفلاني لأنه تأخر، وهناك كذا في الشقة الفلانية تحتاج إلى إصلاح، وهناك كذا”.

بأي شيء؟ بإحسان إلى جارته. هو خلق من أخلاق الإسلام. ما كلفه أي شيء. ولم يكن نفعياً، إنما كان منطلقه منطلقاً مبدئياً أخلاقياً ذاتياً كما قلنا.

أنتقل إلى القسم الثاني من هذه المحاضرة، وهو:

المسلم الفتنة.

وهذا أهم في الحقيقة من الصورة الأخرى، لأنه الإشكال الكبير هو أن يكون المسلم الذي يعيش في أوروبا أن يكون فتنة لغير المسلمين.

القرآن الكريم مليء بالأدعية. وأهم الأدعية القرآنية هو الأدعية التي وردت على لسان الأنبياء.

من أهمها الدعاءين الذين وردا على لسان اثنين من أولي العزم من الأنبياء:

الدعاء الذي ورد على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلام: “رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (سورة الممتحنة، الآية 5).

والدعاء الثاني الذي ورد على لسان سيدنا موسى عليه السلام: “رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” (سورة يونس، الآية 85).

التفسير الذي اطمأننت له لمعنى الفتنة هو اضطراب حال المسلمين وفساده، بحيث لا يصلحون معه أن يكونوا قدوة لغيرهم في الخير.

مجموع المسلمين لا يكونوا قدوة لغيرهم فيصبحون فتنة، بمعنى أن يقول غير المسلمين: “لو كان في الإسلام خير لانتفعتم أنتم به.

بما أن الإسلام لم ينفعكم فهو لن ينفعنا.

فنحن لسنا بحاجة إلى التفكير فيه أو إلى دخوله”.

فتكون الجماعة المسلمة في مجموعها فتنة للذين كفروا، أو يكون المسلم بمفرده فتنة للذين كفروا.

فمعنى الآية دعاء كأني أقول: يا رب لا تجعل أعمالنا وأقوالنا سيئة، فيترتب على ذلك أن ينفر الكافرون من ديننا بحجة أنه لو كان ديناً صحيحاً لظهر أثر ذلك على أتباعه.

للأسف الشديد أن حال البلدان الإسلامية أو الأمة الإسلامية اليوم مع هزائمها الكثيرة في كل الميادين أنها فتنة للذين كفروا.

فهل يكون المسلمون الذين يعيشون في أوروبا، وليست عندهم ذات الضغوط والأسباب الموجودة عند المسلمين في المجتمعات الأخرى، هل يكونون فتنة للذين كفروا؟

لا عذر لأحد. الجماعة المسلمة في مجموعها والمسلم الفرد.

السؤال مشترك أو مزدوج، والحديث يتجه إلى الجماعة المسلمة، لأن الجماعة المسلمة تتكون مني ومنك ومنه ومنها.

هذه الجماعة المسلمة التي تعيش في الغرب، وكذلك الفرد المسلم الذي يعيش في هذه البلاد.

فأذكر أن وزيراً أوروبياً بعد أن اعتنق الإسلام وتعلّمه قال: “فهمت وأدركت أن أول ما يجب علي أن أقوم به هو أن أعود إلى جيراني من المسلمين في الحي الذي أعيش فيه لأعلمهم الإسلام”.

لماذا قال هذا الكلام؟

هم مسلمون يصلون وولدوا مسلمين وأسبق منه في الإسلام، لكن لم يجد من سلوكهم ومن تعاملاتهم ما يجسّد أخلاق الإسلام كما فهمها وكما تعلّمها هو بصورة صحيحة.

وكم من مرة جاءتني ألمانية مسلمة تطلب مني أن أخلعها من زوجها المسلم، المسلم الذي ولد مسلماً.

لماذا؟ تقول: “لأني لا أستطيع أن أعيش مع شخص بهذه الأخلاق”.

والله مرة امرأة ألمانية قالت لي: “إن لم تجد لي حلاً لتفصلني عن زوجي سأرتد عن الإسلام وأخرج من الإسلام”.

أي فتنة بعد هذه الفتنة؟ كان بها هذا الرجل فتنة لزوجته المسلمة حديثة العهد بالإسلام.

حتى أكون عملياً أيضاً، أجيب على هذا السؤال في صور ونماذج سريعة في حدود ما يسمح به الوقت.

كيف يكون المسلم في أوربا فتنة لغير المسلمين؟

أول صورة يكون بها فتنة لغير المسلمين هي الاحتيال ومخالفة القانون.

بعض الناس يظن أنه بما أنه يعيش في دولة أغلبيتها غير مسلمة وقوانينها وسلطانها غير إسلامي، أنه يجوز له أن يخالف هذه القوانين وأن يتهرب منها وأن يقدم المعلومات الخاطئة ليحتال عليها ويأخذ مساعدات لا حق له فيها.

يقول: ” نحن في بلد غير مسلم، نتهرب من الضرائب، نفعل ما نشاء”. هل هذا الكلام صحيح؟

هذا الكلام خطأ، وصورته كثيرة في الحقيقة.

بعض الحالات عندنا في ألمانيا، أرجو أن تكون هذه الصورة صور غير ظاهرة أو موجودة في كندا، الأزواج الذين ينفصلون أمام الدولة ويتزوجون زواجاً عرفياً، لأنهم يأخذون امتيازات مالية ومساعدات في حالة الانفصال، وكل واحد يأخذ بيت.

ويفعلون هذا الكلام كحيلة لأخذ أموال وأخذ مساعدات وأشياء من الدولة.

الذين يركبون المواصلات ويتهربون منها مثلما ذكرت.

وغير ذلك من الصور التي تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة وهي الاحتيال ومخالفة القانون لتحقيق كسب ما من المكاسب.

أقول إن أي مخالفة للقانون من قبل المسلم الذي يعيش في أوربا هي أمر محرم شرعاً. ونقول هذا الكلام سراً وجهراً.

لماذا؟ لأنه المسلم بأي بلد غربي بينه وبين الدولة عهد وميثاق واتفاق.

سواء دخل البلد بإقامة مؤقتة، أو دخلها بإقامة دائمة، أو دخلها بجنسية تجنس بعد ذلك، أو ولد متجنساً، أو كان غير مسلم ثم اعتنق الإسلام.

في كل هذه الصور هناك اتفاق أو وثيقة أو عهد لفظي حقيقي أو معنوي بينك وبين الدولة.

عليك أن تفي به. ونقض هذا العهد وتقديم معلومات خاطئة غش وكذب.

والإسلام أمر بالصدق ونهى عن الغش ونهى عن الكذب ونهى عن الخيانة، ودعا وأمر بأداء الأمانة.

والنبي صلى الله عليه وسلم ما ركز على شيء في خطبه من خطبه مثل ما ركز على الأمانة.

والله أنا أكاد أذهل لما أقرأ في القرآن الكريم التركيز على الوفاء بالعهد. الوفاء بالعهد في القرآن الكريم يرتقي إلى أن يكون كلية من الكليات، وليست مسألة جزئية فرعية ثانوية.

سورة في القرآن الكريم سورة كاملة اسمها سورة المائدة تبدأ بالأمر بالوفاء بالعقود والعهود: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ” (سورة المائدة، الآية 1) وتسمى عند بعض المفسرين بسورة العقود.

وقال تعالى: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا” (سورة الإسراء، الآية 34).

وتكفينا آيات سورة سورة الرعد: “أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ” (سورة الرعد، الآية 19-20).

ما جزاؤهم؟ “أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ” (سورة الرعد، الآية 22-24). وعكسهم: “وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ” (سورة الرعد، الآية 25).

الوفاء بالعهد كما يعرفه العلماء: أن يحقق المرء ما عاهد على أن يعمله.

عاهدت الدولة على أن تلتزم بقوانينها، يتعين عليك أن تلتزم بقوانينها.

ولذلك لما بعض الناس يسألنا عن التعدد، التعدد أباحه الإسلام، تعدد الزوجات أباحه الإسلام، ويمنعه القانون.

نقول له: التزم بالقانون.

“كيف يعني تحرّم علي ما أباحه الله؟”

لا يستطيع أحد أن يحرّم عليك ما أباحه الله سبحانه وتعالى، لكنك أنت ألزمت نفسك بالالتزام بقوانين البلاد.

عليك أن تفي بعهدك. فإن أردت أن تخالف، عليك أن تتحمل هذه التبعات، وتعلم أنك تنسبها إلى الإسلام.

لأنه كما قلنا: “كل مسلم يعيش في أوروبا هو كتاب مفتوح عن الإسلام”.

فانظر ماذا يقرأ فيك الشخص الأوربي غير المسلم؟

يقرأ الإسلام الحقيقي ولا يقرأ الفتنة فتصده بفعلك أو بقولك عن دين الله سبحانه وتعالى.

الأمر الثاني الذي يكون به المسلم فتنة لغير المسلم هو الاختيارات الفقهية التي لا تناسب الواقع الأوربي:

وهذه نقطة في غاية الأهمية.

بعض المسلمين يصر على التمسك باختيارات فقهية نشأ عليها أو استمع إليها أو حسب المدرسة الفقهية التي يميل إليها، حتى لو كانت لا تتناسب مع واقع البلد الأوروبي الذي يعيش فيه.

والاختلاف في الفروع هو أمر مقصود لله سبحانه وتعالى.

وبالمناسبة الأحكام كلها لو أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون قطعية مُلزمة لا اختلاف فيها لكانت.

لكن الاختلاف في الفروع هو مقصود للشارع الحكيم.

لو قال الله سبحانه وتعالى: “وامسحوا رؤوسكم” ما حصل خلاف بين الفقهاء في مسح الرأس، لكن فقط هذه الباء جعلت الفقهاء يختلفون في كيفية مسح الرأس.

لو قال الله تعالى: “وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ وُجُوهِهِنَّ” لانتفى خلاف في أمر تغطية الوجه بالنسبة للمرأة، ولكان تغطية وجه المرأة فرضاً واجباً.

لكن قال: “عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ” (سورة النور، الآية 31)، ليقع الخلاف في تغطية الوجه.

هذا أمر مقصود للشارع الحكيم. لماذا؟

لتحصل مرونة الدين ليناسب الإسلام الناس في كل زمان ومكان.

فالرأي الفقهي الذي لا يناسب أهل مصر، نحتاجه ويناسب أهل أوروبا.

ويعجبني جداً التعبير الذي قاله أحد الفقهاء، قال: “إن الرأي المرجوح، مرجوح يعني دليله ضعيف، لكنه معتبر، هذا الرأي أعطيه إجازة، وأعمل بالرأي الراجح”.

أعطيه إجازة يعني أجعله في جيبي، لأني سأخرجه من جيبي في وقت من الأوقات “أقول له: الآن أحتاج إليك.

ستحل لي أزمة، سترفع عن المسلمين حرجاً في هذه البلاد”.

فالمسلم الأوروبي مأمور أن يختار الاختيار الفقهي الذي يجمل صورة الإسلام، يقدّم الإسلام بالصورة التي تقترب من ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه.

لماذا نلزم الأوروبيين بآراء أئمة وفقهاء معتبرة، لكنها لا تتوافق مع عاداتهم ومع أعرافهم ومع ثقافتهم، بل تدخلنا في إشكالات وتصم دين الإسلام في الجملة بصفات وأشياء ليست فيه؟

مصافحة الرجل للمرأة والمرأة للرجل:

القضية التي لا أحاضر في محاضرة في أي مسجد في أوروبا إلا وأسأل فيها وتتكرر علينا بصورة دائمة، وهي :

قضية المصافحة، مصافحة الرجل للمرأة والمرأة للرجل.

واعتبار كثير من المسلمين أن هذه القضية هي علامة التدين ومعيار التدين الأول.

فإذا رأيت إماماً أو شيخاً صافح امرأة، سقط من عيني، وشخص لا نثق في تدينه ولا نثق في علمه ولا نصلي خلفه، إلى آخره.

هذه القضية أحدثت لنا مشاكل كثيرة جداً في أوروبا.

لعلكم تتبعتم ما حدث في النرويج مؤخراً. أحدث شيء حصل في موضوع المصافحة: ولي العهد النرويجي ذهب لزيارة مسجد من مساجد المسلمين بعد محاولة قام بها شخص نرويجي غير مسلم، يميني متطرف، يحمل سلاحاً، أراد أن يفعل في مسجد المسلمين مثلما حصل في مسجد نيوزيلندا، لولا أن الله سبحانه وتعالى لطف وقيّض للمسلمين رجلاً عجوزاً شيخاً فقام بالإمساك به ومنعه مما فعل.

حالة تضامن شعبية ورسمية وسياسية مع المسلمين ومساجدهم.

فذهب ولي العهد، وكانت إحدى الأخوات المسلمات في استقباله، مدّ يده لمصافحتها فقبضت يدها وفعلت له هكذا.

بدأت وسائل الإعلام تصور الحدث وانصرفت الأذهان إلى هذه النقطة: لماذا لم تصافح هذه الأخت؟

لماذا لم تصافح هذه المرأة هذا الرجل؟

وانقسم المسلمون، أنا زرت النرويج بعدها بأسبوع، المسلمون أنفسهم منقسمون.

فريق يثني على تصرف الأخت ويرى أنها ما شاء الله ملتزمة بالإسلام، وأنه هذه البلاد فيها حرية، وما الإشكال أنها مارست حريتها فاختارت ما تشاء، والرجل لم يغضب، “أنتم الذين تضخمون الموضوع”.

والآخرون يقولون: “إنها أساءت إلينا وأحدثت لنا مشكلة، وإذا كانت تعرف نفسها كذا، كان يمكن ألا تحضر اللقاء من أساسه. نحن كنا في غنى عن كل هذا”.

حدث فريد كان يمكن أن تنشغل وسائل الإعلام بنفي مسألة أساسية هي أن الإرهاب لا دين له.

أو كلما تحدث عملية عنف في أي بلد ويكون الفاعل فيها مسلم نلصق دين الفاعل كله بأنه دين العنف ودين التطرف ودين الإرهاب؟ فطالما مسلم  فالإسلام دين العنف ودين التطرف ودين الإرهاب.

الآن العنف والتطرف يحمل بصمة واسم ودين ولون وبشرة شخص غير مسلم وشخص أوروبي، لتعلموا أن الإرهاب لا دين له.

لكن للأسف فوتنا هذه الفرصة بالتمركز حول هذه القضية الفرعية الجزئية الثانوية كما قلت.

والمجلس الأوروبي للإفتاء له فيها قرار جماعي، قرار جماعي وقّع عليه أكثر من 25 فقيه وعالم، يقول: “إن المسلم الذي يعيش في أوروبا إذا صُوفِح يصافِح”.

لأن المسألة خلافية، واعتبار العرف من المرجحات في المسائل الخلافية.

أنا لا أريد أن أطيل عليكم بالدخول في تفاصيل النقاش الفقهي لهذه المسألة، لعله يتم في محاضرة أخرى.

لكن باختصار، أود أن أقول بخصوص الاختيارات الفقهية: علينا أن نفرق بين الاختيار في الشأن الفردي والاختيار في شأن الجماعة أو الصورة العامة للإسلام.

عندما يتصل الاختيار الفقهي بشأنك الفردي، اختر ما تشاء.

في الصلاة مثلاً، أنت تصلي وحدك أو تصلي خلف الإمام. كيف أرفع يدي في تكبيرة الإحرام؟

في موضع واحد أم في أربعة مواضع؟ أين أضع يدي؟ كيف أرسلها ولا أضعها على الصدر أو فوق السرة أو تحت السرة؟ كيف أحرك إصبعي في السبابة؟ هل أقرأ الفاتحة خلف الإمام أو لا؟

كل هذه أمور الاختيارات الفقهية فيها شأن فردي، اختر ما تشاء.

لكن عندما يتصل الأمر بمصلحة الجماعة، كهذا الذي يمثل المسلمين أمام الإعلام ويرفض المصافحة ويدخلنا في هذه المعركة التي لا ناقة له فيها ولا جمل، لم يعد الاختيار هنا شأن فرد خاص بك أنت.

الحسابات الفلكية، واحد يقول: “أنا مش مقتنع يا أخي بالحسابات الفلكية وهذه فيها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا”.

 تمام، على رأسي، لكنها صارت ترتبط بالمصلحة العامة للمسلمين.

ما دامت ترتبط بالمصلحة العامة للمسلمين، إذن يجب أن تطرح قناعتك الشخصية وتركز على المصلحة العامة للمسلمين.

لماذا لا تصدرون في المجلس الأوروبي فتوى بتحريم النقاب؟

مرة حدثني أحد الإخوة المشتغلين في التعريف بالإسلام، وله علاقات قوية مع الأوروبيين والألمان، قال لي: “لماذا لا تصدرون في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فتوى أو قراراً يحرّم على المسلمة الأوروبية أن تلبس النقاب أو أن تغطي وجهها؟”

قلت له: “يعني لماذا تحرّم شيئا أباحه الله سبحانه وتعالى ؟

نحن موقفنا في النقاب في ألمانيا لما أرادت بعض المؤسسات الإسلامية أن تقدم رأياً في هذا الموضوع وسألوني، قلت لهم: “علينا أن نشدد وأن ننصح المسلمة التي تعيش في أوروبا ألا تجعل تغطية الوجه خياراً فقهياً لها، بل إن هذا الاختيار لا يناسب هذا العصر أصلاً، وليس فقط لا يناسب أوروبا.

لكننا في ذات الوقت لا بد أن نؤكد على قيمة وأهمية الحريات الفردية.

هذا عدوان على الحرية الشخصية في أمر اللباس.

نحن لا شأن لنا بمن تتعرى أو تتكشف، فكذلك يجب أن يكون للمرأة المسلمة الحرية في أن تلبس ما تشاء، بقيد واحد إذا أضر بالأمن”.

يعني إذا كان فيه دراسات أو معلومات تقول إنه المرأة حين تغطي وجهها تضر بالأمن، إذا كانت تقود السيارة مثلاً لا تنظر بشكل دقيق، إذا كان بعض الناس يستغل هذا الأمر في أعمال مخالفة للقانون، إلى غير ذلك هذه قصة أخرى.

لكن من حيث المبدأ نؤكد على الحريات الشخصية.

أعود إلى هذا الأخ، قلت له: “ما الذي يحملك على طلب فتوى بتحريم تغطية المرأة لوجهها؟”

ماذا قال؟ “أنا يمكن أن أتحدث عن الإسلام وعن جماليات الإسلام وعن تكريم الإسلام للمرأة ومنزلة المرأة في الإسلام فتنبهر الألمانيات، لكن رؤية صورة واحدة والتقاط لقطة واحدة لامرأة تغطي وجهها كفيلة أن تهدم كل ما قلت عن تكريم الإسلام للمرأة وعن منزلة المرأة في الإسلام”.

فالمراة التي تغطي وجهها، بحسب تعاملاتي مع الألمانيات غير المسلمات، هي فتنة بحالها وهيئتها لغير المسلمين.

ونستطيع أن نعد العديد من الأمثلة والتطبيقات على هذا الأمر.

موضوع المسح على الجورب.

بعض الشباب والطلبة، خاصة الذين يتمذهبون بالمذهب الحنفي، وهذا فهم خاطئ بالمناسبة، الإمام أبو حنيفة صحيح كان عنده موقف من المسح على الجورب لكنه عاد عنه في آخر عمره.

يعني آخر الكلام من رأي أبي حنيفة هو جواز المسح على الجورب.

لكن الأتراك والذين يتمذهبون بالمذهب الحنفي لا يمسحون على الجورب ويصرون على غسل أقدامهم حتى في فصل الشتاء، فيصعبون هذا الأمر على الناس.

والأوروبيون عندما يرون الإنسان يغسل قدمه في الحوض الذي يغسلون فيه أيديهم يأنفون من هذه الصورة ويستغربون منها.

لماذا لا أختار الاختيار الذي يناسب البيئة والمجتمع الذي أعيش فيه؟

كذلك المشاركة السياسية.

كذلك رفض الحسابات الفلكية: رفض الأخذ بالحسابات الفلكية يوصل صورة للمجتمع ولغير المسلمين أن الإسلام يرفض العلم ويرفض مسايرة العلم وضد العلم، وأن الإسلام عاجز عن المشاركة في تنظيم الحياة.

هذه هي الرسالة التي نوصلها للمجتمع عندما نرفض العمل والأخذ بالحسابات الفلكية.

ولعلنا يكون لنا حديث مفصّل في هذا الموضوع.

الاناة-والتوؤدة-صفات-يحبها-الله-ورسوله-1024x768 (نسخ)

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80