إرسل فتوى

القراءة الإيمانية للأحداث

القراءة الإيمانية للأحداث

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. ألمانيا. بون 20 ديسمبر 2024م

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإننا نعيش في هذه الأيام مشاعر مختلطة بين الفرح بالنصر المبين والفتح الكبير للشام وزوال حكم الطاغية عنها، وبين الحزن والألم على ما يجري لأهلنا وإخواننا في غزة الأبية الصامدة من تدمير للإنسان والعمران، وحالة الحزن والخذلان التي أصابت الأمة كلها والإنسانية جمعاء إلى حد أنها عجزت عن مجرد توفير الأكفان والمقابر والدفن لشهداء العدوان الغاشم على الأطفال والأبرياء من المدنيين، بعد أن نهشت جثثهم الكلاب الجائعة الضالة!!

والواقع أن تشابها كبيراً وتقاربا بين أحداث غزة والشام، فكلاهما له فضل ومنزلة أثبتتها النصوص النبوية الصحيحة؛ أما غزة فقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ ‌الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 21] هي أرض فلسطين، وقال النبي ﷺ:”أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان”، وقال أيضاً: “وإن خير رباطكم عسقلان”، وعسقلان الآن تقع إلى الشمال الشرقي من غزة، وتبعد عنها 25 كم قريبة من الشاطئ على الطريق بين غزة ويافا، وقال عمر بن الخطاب : لولا أن تعطل الثغور وتضيق عسقلان بأهلها لأخبرتكم بما فيها من الفضل.

وفي غزة ولد الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وأما الشام فقد صنفت في فضلها التصانيف المستقلة.

وصح في فضلها أكثر من عشرين حديثاً صحيحا منها حديث عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا” البخاري.

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إني رأيتُ عمودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي، فنظرتُ فَإِذَا هُوَ نورٌ ساطعٌ عُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلا إِنَّ الإِيمَانَ -إِذَا وَقَعَتِ الفتن- بالشام” أخرجه الحاكم بسند صحيح.

ولعل في هذا إشارة إلى أنه لن يقع في الشام مثل ما وقع في محاولات التحرر من الطغيان في بلدان أخرى في المنطقة العربية من نجاح الثورات المضادة في وأد أحلام الشعوب في الحرية والتحرر من الاستبداد والطغيان.

وقد انتبه قادة العالم وساسته إلى خطر وأهمية سورية جغرافياً وتاريخياً فقال نابليون عنها: “هي قلب العالم ومن يسيطر عليها يسيطر على قلب العالم”، وقال تشرشل: “هي مفتاح الشرق الأوسط”؛ لهذا فإن فتحها له ما بعده ولن يكون كأي فتح إن شاء الله.

ومن التشابه بين غزة وسورية طول أمد الظلم والقتل، 15 شهراً من الحرب والتقتيل في غزة، و14 عاما أو أكثر في سورية، ومن التشابه الاستيئاس وفقدان الأمل في الحالين ثم قدوم الفرج كأنه حلم لا يصدقه العقل في الشام وسيعقبه الفرج في غزة إن شاء الله، بل إن غزة كانت سببا في فتح الشام وستكون الشام فتحا يعقبه فتوحات بإذن الله.

ونحن في هذه الأحوال يغلب علينا التحليل السياسي والواقعي للأحداث وهو مطلوب لا شك،  لكن الأهم منه في التصور الإسلامي القراءة والتحليل الإيماني.

ويمكن إيجاز أهم معالم القراءة الإيمانية للأحداث فيما يلي:

1- طلاقة القدرة الإلهية:

المسلم يعتقد أن الفاعل الحقيقي للأحداث كلها هو المولى الجليل سبحانه وتعالى، وأنه مهما بذلت الأسباب ووضعت الخطط فلن يتم شيء في هذا الكون إلا بأمر الله ومشيئته والله سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ‌قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 20]، والأمر كله بيده سبحانه، ﴿‌قُلْ ‌إِنَّ ‌الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾ [آل عمران: 154]، وهو سبحانه ﴿ قَدْ ‌أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12]، وما أجمل قول ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: “الواردات الإلهية لا تأتي إلا بغتة، لئلا يدعيها العباد بوجود الاستعداد” فما حدث في سوريا من فتح ونصر هو فضل الله ورحمته بالمستضعفين والمظلومين قبل أي نظر آخر، قال تعالى: ﴿‌وَكَفَّ ‌أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 20]  وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي ‌كَفَّ ‌أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾ [الفتح: 24] فالمولى القدير هو الذي كف يد الروس وغيرهم عن الثوار حتى أتم الله عليهم نعمة الفتح والتحرير، وسيحدث مثل هذا الفتح وأعظم منه إن شاء في غزة إن أحسنا العودة إلى الله والعمل المستدام لكشف الضر والظلم الذي نزل بإخواننا.

2- شدة الظلم وقوة الإيمان من أسباب النصر:

لا شك أن الظلم والإجرام والدموية التي عاشها أهل سورية غير مسبوقة في التاريخ الحديث وأن ما كُشف لنا منها قليل من كثير، وقد لازم هذا الظلم ثبات وصمود أهل الإيمان من الثائرين على البغي والاستبداد والرافضين له وتضحياتهم كانت كبيرة جدا، فكانت العاقبة فرار الطاغية ولجوئه كما ألجأ شعبه وهجره وأكرهه على ترك وطنه ثم الجزاء الأوفى على هذا الظلم والبغي في الآخرة ﴿فَيَوْمَئِذٍ ‌لَا ‌يُعَذِّبُ ‌عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾ [الفجر: 25-26]، والله سبحانه وتعالى توعد الظالم بعدم الفلاح في الدنيا فقال: ﴿إِنَّهُ ‌لَا ‌يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 21] ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ ‌الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 17] ووعد المؤمنين بالنصر في الدنيا قال تعالى: ﴿إِنَّا ‌لَنَنْصُرُ ‌رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 51-52] فالظلم من أسباب الهلاك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ‌أَهْلَكْنَا ‌الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ [يونس: 13]، وقد رأينا آيات الله في الظالمين في سوريا وهو واقع الحال الآن في غزة، ولا ريب أن هذا الطغيان والمبالغة في قتل الأبرياء، وثبات وصبر المؤمنين من مقدمات هلاك الظالمين وأفول حضارتهم.

3- الدعاء واللجوء إلى الله أمضى سلاح يهلك الظالمين:

لقد استمر دعاء المظلومين في سوريا سنين عددا وظن الناس أنه لا أمل في الخلاص من الطاغية وحاروا في سبب عدم إجابة الدعاء، ولكن الدعاء تأخرت إجابته لحكم يعلمها الله وأرانا الله آية في إجابة الدعاء وإهلاك الطغاة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ثلاثٌ لا تُرَدُّ دعوتُهُم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ والإمامُ العادلُ ودعْوةُ المظلومِ تُحمَلُ علَى الغَمامِ و تُفتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ و يقولُ اللهُ تباركَ وتعالى وعزَّتي وجلالي لأنصرَنَّكَ ولَو بعدَ حينٍ”، وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية أن يحيى بن خالد البرمكي- أحد وزراء بني عباس – قال له أحد بنيه – وهما في السجن والقيود -: يا أبت، بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال؟! فقال: يا بنى، دعوة مظلوم سرتْ بليلٍ ونحن عنها غافلون، ولم يغفل الله عنها! ومن إجابة الدعاء وتحقق آيات الله في الطغاة والظالمين في الدنيا أن كل طاغية عوقب في الدنيا من جنس من عاقب به من قاوموا ظلمه وبغيه، فمن قتلهم قُتل، ومن حبسهم، حُبس، ومن هجَّرهم وألجأهم هُجِّر وطلب اللجوء،، فلنستمر في الدعاء لأهلنا وإخواننا في غزة أن يعجل الله لهم بالفتح والنصر كما أنعم على أهل الشام، وأن يكون لهم وليا ونصيرا وسندا ومعينا، وأن يلهم إخواننا في سوريا السداد والرشاد، وأن يوحد صفهم ويؤيدهم بروح من عنده إنه سميع مجيب. والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80