إرسل فتوى

العُطلةُ المثمرة

العُطلةُ المثمرةواتس-اب-عن-الاصدقاء-قصيرة

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 11 يوليو 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فقد بدأت العطلة الصيفية واستعد أغلب الناس للسفر ترويحاً عن النفس، أو براً وصلة لأهلهم، أو عمرة وطاعة لله تعالى، والمسلم في هذا العالم كثير الضغوط على القلب والروح خاصة في أوروبا، ويحتاج إلى فترات للاسترواح والاستجمام وتجاوز تحديات وضغوط الحياة وسيل الأخبار السلبية التي تُشتت العقل وتشوش القلب، والمسلم الأوروبي لابد أن يجعل لأولاده وقتا للتعطيل والاسترواح حتى لا ينفرهم من الدين من حيث لا يشعر؛ حيث يرتبط الدين في حياتهم بالمنع والحظر إذا ما قارنوا أنفسهم بأقرانهم وزملائهم من غير المسلمين خاصة فيما تميل إليه النفس وتهواه سيما في مراحل عمرية معينة!!

وقد أشاع تيار الغلو والتشدد ذما وانتقاصا لأمر اللهو والترويح بكل صوره وأشكاله وعدَّه من الأمور المرفوضة في الإسلام، والواقع على خلاف ذلك فإن الترويح مطلوب ومرغوب بضوابطه الشرعية ومقاصده المرعية؛ فكل ما ورد عن ذم اللهو والضحك في الإسلام لا يصح سندا كوصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان متواصل الأحزان، والحقيقة أن السنة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان رغم أعبائه ومسؤولياته يلاطف زوجاته ويتسابق معهن ويخرج بهن إلى الطبيعة ويتحاور معهن الحوار الطويل المركز، وكان كذلك مع أصحابه، كما أذن للأحباش أن يلعبوا بالحراب في المسجد وكان يحمسهم قائلا: دونكم يا بني أرفدة، وأذِن للسيدة عائشة رضي الله عنه أن تشاهدهم حتى ملَّت، والتأصيل للترويح المنضبط يطول الكلام فيه حتى صنف بعض العلماء فيه التصانيف المستقلة ليرد الشبهات ويصحح المفاهيم، ومما أُثر عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله” روحوا عن القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة فإنها تملُّ كما تمل الأبدان” والمقصد من الترويح المنضبط موافقة فطرة الإنسان التي لا يستطيع معها أن يواصل العبادة أو العمل دون انقطاع أو ملل فيأتي الترويح ليعينه على مواصلة العمل والإنتاج أو الطاعة والعبادة، وليس المراد بالترويح أن تتحول الحياة كلها إلى ترويح ولهو حتى لو كان منضبطا؛ فنحن أمة جد ليس فيها هزل ولسنا أمة هزل فيها جد.

ولا يشوِّش على الترويح ما تمر به أمتنا من محن وآلام خاصة في غزة، فإن الحياة لن تتوقف، والترويح أحد الأسباب المعينة على استمرار الدعم والنصرة لأهلنا وإخواننا في غزة فالشخصية المنكسرة المحبطة لا يمكنها أن تغيث أحدا أو تصنع الحياة في أي مكان، ويجب أن تكون غزة حاضرة في لهونا وترويحنا فأنى لمسلم أن ينساها؟!

ويمكننا إيجاز معالم الترويح في عطلة مثمرة ومنتجة فيما يلي:

  1. إدراك قيمة الزمن واستثماره حتى في العطلة: من الأحاديث المخيفة والمعبرة بإعجاز عن قيمة الزمن قوله صلى الله عليه وسلم:” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” أخرجه البخاري. والمغبون هو الذي يشتري بثمن أعلى ويبيع بأقل، فكثير من الناس مغبون في أمر الوقت والصحة فيضيع عمره ووقته فيما لا يفيد، ولا يدري أنه سيُسأل عن الزمن كما في الحديث الصحيح” لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: …. وعن عمره فيما أفناه” فلا يعني أنك في عطلة أن تضيع الوقت فيها دون إنجاز أو فائدة ويمكن الجمع بين الترويح عن النفس والاستجمام والإنجاز، فتحفظ قدرا من القرآن أو تراجع أو تتقن التلاوة وتستثمر حالة الصفاء الذهني في العطلة بتدبر القرآن واستخراج معانيه، في قراءة كتاب ومدارسته مع الأسرة، بالتخطيط لمستقبلك ومستقبل أولادك، بطاعة تنتظم فيها مع أسرتك، بتصحيح جملة من المفاهيم كل يوم أو بعد كل صلاة مع عائلتك، بوضع شعار للعطلة تثبت من خلاله الواجبات والفرائض وتحصِّن أولادك من الشكوك والشبهات، بترسيخ الهوية وتقوية اللغة العربية عند أولادك.
  2. استعادة اللحمة الاجتماعية: لقد تقطعت الروابط والصلات الاجتماعية أو ضعفت كثيراً بين أفراد الأسرة الواحدة وبين دوائر العائلات القريبة بفعل عوامل كثيرة على رأسها شبكات ومنصات التواصل التي قطعت الحوار بين الزوجين والأولاد وأصبح لكل واحد عالمه ونتجت عن ذلك تراكمات هائلة من المشكلات الاجتماعية المرشحة للزيادة ما لم نتداركها بحلول عاجلة، وأكثر المتضررين منها الجيل الجديد من شبابنا وبناتنا، ولقد أردك خبراء علم النفس والاجتماع هذه الآثار السلبية وراح بعضهم يصنف الكتب ويقدم الدورات وفحواها كيف تتخلص من هاتفك؟ والعطلة فرصة لاستعادة اللحمة والروابط الاجتماعية خاصة داخل الأسرة الواحدة، وفتح حوارات مطولة مع الأبناء والتقرب منهم والتعرف على مشكلاتهم وإغلاق الهواتف والانقطاع عن الشبكات أكبر قدر ممكن من الوقت، والعطلة أيضا فرصة لصلة الأرحام وربط أولادنا في الغرب بجذور عائلات آبائهم وأمهاتهم في موطن ولادتهم.  
  3. عبادة التفكر والشكر: العطلة فرصة لإحياء عبادتين وهما: شكر النعمة، والتفكر في الكون المنظور، فأما الأولى فالاسترواح نعمة ظاهرة في باطنها نعم كثيرة كالأمن، والاجتماع العائلي، وحرية الحركة والسفر، وهي نِعم حُرم منها كثير من الناس خاصة أهل غزة فرج الله عنهم، فعليك أن تشكر الله على تلك النعم وأن تسأله دوامها، وأن تشعر بالمحرومين منها فتسعى لمواساتهم والتخفيف عنهم قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وأما التفكر فهو من العبادات العظيمة الغائبة في زماننا والعطلة فيها رؤية الطبيعة ومشاهدة أماكن جديدة، وإبداع الخالق في نظم هذا الكون، وقد وصف الله تعالى أولى الألباب في القرآن بصفتين هما ذكر الله والتفكر في خلقه قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 190-191]، فالتفكر من أهم الوسائل التي ترسخ الإيمان وتزكي القلب والروح.
  4. محظورات في العُطل: يجب أن ينضبط الترويح بالضوابط الشرعية فلا يقع فيه شيء حرمه الله، ولا يتُرك فيه شيء فرضه الله، ومن أهم المحظورات الواجب تجنبها في العطل ما يلي: الاقتصاد وعدم الإسراف، فالإسراف مذموم في الأحوال العامة وهو في الترويح غير الواجب أشد خطرا وإثما قال تعالى: ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31] فاقتصدوا في عطلكم وادخروا شيئا منها لإخوانكم في غزة، ومنها: عدم رعاية شعور الآخرين: يقع أن يسافر المغترب إلى وطنه بسيارة فارهة، وملابس فاخرة، ونفقات باهظة، وحديث عن حياته الناعمة في الخارج فيغير بذلك نفوس من يلقاه نحوه ممن فقدوا ما هو فيه، فابذل جهدك أن تستر نعم الله عليك، وأن تراعي شعور المحرومين والمحتاجين خاصة أقاربك، ومنها: عدم الالتزام باللباس الشرعي وغض البصر، فالأصل في المسلم أن يتجنب أماكن الفتن وإذا اضطر إليها التزم هو ومن يلي أمرهم خاصة النساء بستر ما أمر الله بستره، وغض البصر عما حرم الله وعدم اعتبار العطلة طريقا للوقوع في المعاصي والذنوب، ومنها قصر الترويح على السياحة والسفر: والتوازن أن تجعل للعمرة مع الأسرة نصيبا كل فترة فتجمع بذلك بين طهارة القلب وراحة النفس، ومنها عدم تجديد النية: فجدد نيتك أن تكون عطلتك ترويحا تستأنف بعده طاعتك لربك وعمارتك للأرض بعبوديته، وصلة لرحمك وإسعاداً لأولادك.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وكن لأهلنا وإخواننا في غزة سنداً ومعيناً، وولياً ونصيراً، والحمد لله رب العالمين.     

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80