إرسل فتوى

التقوى سبيل استقامة وصلاح الذرية

التقوى سبيل استقامة وصلاح الذريةprayer-gce011b723_640

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين . بون. ألمانيا 14 مارس 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن إقامة الدين كانت مهمة ورسالة الأنبياء جميعا، تأمل قوله تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي﴾ [البقرة: 132-133]، والهم الأكبر الذي يحمله كل مسلم يعيش في الغرب هو الخوف على دين ذريته وأولاده؛ لهذا تكثر الأسئلة عن حكم العيش في الغرب وهل تجب الهجرة من أوروبا حفاظاً على الدين؟ وذلك بعد تضاعف وزيادة التحديات والتشكيكات في ثوابت الدين وقطعياته، وقد أكدنا مراراً على ضرورة التوطين في الغرب ومواجهة التحديات بالوسائل الممكنة وعدم الهرب منها بالهجرة، لأن التحديات في كل مكان في ظل العالم المفتوح الذي نعيشه. ومن أهم هذه الوسائل تحقق الوالدين بالتقوى فإنه من أسباب صلاح واستقامة الذرية على الدين، والتقوى كلمة ابتذلت من كثرة ما لاكتها الألسن، ولكنها كلمة الله للأولين والآخرين قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131]، وكل الأنبياء دعوا أقوامهم للتقوى قال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:106)، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:124)، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:142)، وقال تعالى: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء:161)، فالتقوى قضية مركزية في حياة المسلم، ومن أفضل تعاريفها قول طلق بن حبيب رحمه الله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

والتقوى قوامها مراقبة الله تعالى في السر والعلن واستشعارك أن الله يراك فتخشاه أكثر مما تتخشى الناس، وبقدر تلك الخشية والمراقبة تكتمل عبودية العبد لربه؛ قال مطرف بن عبدالله بن الشخير: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله: هذا عبدي حقا!

لهذا حذر العلماء من ذنوب الخلوات وعدّوها أصل الانتكاسات، وأن حسن الخاتمة مرده إلى إصلاح السر بينك وبين مولاك، والصيام قوامه وقصده تحقيق التقوى قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، لأنه عبادة سرية، وحديث القرآن عن أثر التقوى في استقامة وصلاح الذرية في المواضع التالية:

  1. التقوى تأمين وحماية للذرية: قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]، فالخائف على أولاده ومستقبلهم ويحرص على تأمينه السبيل إلى ذلك أن يتقي الله في حياته وأن يربيهم على خشية الله في السر والعلن؛ دخل مقاتل بن سليمان رحمه الله، على المنصور يوم بُويعَ بالخلافة، فقال له المنصور عِظني يا مقاتل! فقال: أعظُك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال: بل بما رأيت. قال: يا أمير المؤمنين! إن عمر بن عبدالعزيز أنجب أحد عشر ولداً وترك ثمانية عشر ديناراً، كُفّنَ بخمسة دنانير، واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه، وهشام بن عبدالملك أنجب أحد عشر ولداً، وكان نصيب كلّ ولدٍ من التركة ألف ألف دينار. والله… يا أمير المؤمنين: لقد رأيت في يوم ٍ واحد ٍأحد أبناء عمر بن عبدالعزيز يتصدق بمئة فرس للجهاد في سبيل الله، وأحد أبناء هشام يتسول في الأسواق. وقد سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت: ماذا تركت لأبنائك يا عمر؟ قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى.
  2. التقوى تحفظ ذريتك في حياتك ومماتك: في سورة الكهف في موضعين متقاربين حديث عن أثر صلاح الوالدين على الذرية قال تعالى: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾ [الكهف: 82]، وقال تعالى: ﴿فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ [الكهف: 80]، في الموضع الأول يسخِّر الله من يقيم الجدار ليحفظ المال لأيتام بعد وفاة أبويهما، وفي الثاني: يستبدل الغلام الفاسق بصالح لصلاح وإيمان الأبوين؛ فهداية أولادك تبدأ من استقامتك وتقواك، ولهذا كان كثير من أئمة السلف يقومون بالليل يصلون وينظرون إلى أولادهم وهم نيام ويقولون: لأجلك تركت النوم!
  3. التقوى تتنزل بها البركة الخاصة والعامة: شيوع التقوى في المجتمع تنزل البركة في الأموال والأقوات والأعمار، وخفوتها أو ضعفها يرفع البركة وإن كثر المال وهذه البركة عامة وخاصة، وتظهر فيما هو حسي وما هو معنوي وقد تراجعت العناية بمفهوم البركة والالتفات إليها في العالم المادي اليوم، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ﴾ [الجن: 16] معناه: لو آمنوا واتقوا لوسعنا عليهم في الدنيا وأعطيناهم مالا ًكثيراً وعيشا رغداً وضرب الماء الغدق مثلاً لأن الخير والرزق كله في المطر. وهذه البركات لا شك تصيب وتنفع الذرية والأبناء.
  4. الحكمة من وجود العصاة والكفار في فروع الأنبياء: يلاحظ وجود الكفار والعصاة في نسل وذرية الأنبياء كآدم، ونوح، وإبراهيم، ولوط، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فما الحكمة في ذلك؟ وهل يخل هذا بما قلناه من أثر صلاح الأبوين في الأبناء؟ يبدو لي والله أعلم أن ذلك وقع بأمر الله لجملة من الحِكم منها: تخليص النبوة والرسالة وأن لا يكون الدين بالنسب والوراثة، وأن لا يكون ثمة تعلق إلا بالله وحده وأنه لا يملك الهداية أحد إلا الله حتى أكمل الناس وأعزهم على الله وهم الأنبياء لا يملكون ذلك لأولادهم قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: 272]، وقال: ﴿قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ﴾ [آل عمران: 73]، وأنك إن وفقت مع أولادك فكانوا من أهل الاستقامة فذلك بفضل الله ورحمته، وأن لا ييأس المصلحون من الإصلاح والعمل لكنهم لا يعولون على الأسباب وإنما على مسببها، وليكون العبد مخلصا في خشيته وتقواه لله فيصير بذلك حقا عبدا لله، فيتقي الله ويخشاه لأنه مولاه لا ليصلح ذريته فتنتقص عبوديته ويخدش إخلاصه.

اللهم أصلح أولادنا ورد من شرد منهم إلى صراطك المستقيم، واجعلنا وإياهم من المتقين، وبلغنا ليلة القدر واكتبنا فيها من العتقاء الفائزين وفرج الكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة، وأيد أهلنا في سوريا بتأييدك، ووحد كلمة المسلمين في السودان، وفي كل مكان والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80