التأصيل الشرعي للمشاركة السياسية لمسلمي ألمانيا 
خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون ألمانيا 14 فبراير 2025م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد
فإن المسلمين في ألمانيا أمام استحقاق سياسي مهم خلال الأيام القليلة القادمة حيث تجري الانتخابات الفيدرالية الألمانية في 23 من فبراير الجاري، ومعلوم أن نسبة مشاركة المسلمين في الانتخابات ضعيفة جدا لا تتناسب مع حقيقة فهم المسلم للإسلام ولا مع حجم التحديات وتضاعفها على المكون الألماني المسلم، وقد يعود ضعف المشاركة إلى سببين: الأول: تأثر المهاجرين الأُول بثقافة بلدانهم حول الانتخابات والتصويت فيها لما ترتبط به من صورية وشكلية وتزوير، والثاني: الفتاوى الوافدة من خارج أوروبا والتي تحرم المشاركة السياسية بمبررات شرعية ظاهرها الوضوح والقوة وحقيقتها التهافت والضعف، ولئن جاز الاختلاف حول الموقف الشرعي من المشاركة السياسية في السنوات الماضية فلا يصح الاختلاف حول هذه الانتخابات نظراً لبرامج الأحزاب وتوجهاتها السياسية وخطر كثير منها على القيم المشتركة وعلى المكون المسلم في ألمانيا، ولابد هنا من التنبيه على أن الحديث عن المشاركة السياسية هو حديث عن الحد الأدنى من الفعل السياسي ولكن المطلوب من المسلم أكبر من ذلك؛ من الوعي السياسي إلى الفعل السياسي، إلى التأثير السياسي والبداية من المشاركة في كل استحقاق انتخابي، وقد خصص المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث دورة كاملة لمدارسة هذا الموضوع وانتهى إلى أن المشاركة السياسية يدور حكمها بين الوجوب والإباحة والندب، وأنه يجوز الانخراط في الأحزاب السياسية القائمة، كما يجوز بذل المال لها وللمرشحين حتى وإن كان المرشح غير مسلم، وأن المشاركة مطلوبة من الرجل والمرأة على حد سواء. ويمكننا أن نستدل على مشروعية بل ووجوب وضرورة المشاركة السياسية بما يلي:
- المشاركة السياسية أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة للشهادة: نحن الأمة المخرجة للناس والتي استحقت الخيرية لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110]ولا شك أن المشاركة السياسية أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وتعاون على البر والتقوى ورفض أو تقليل للإثم والعدوان قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2]، وهى كذلك لون من ألوان إقامة الشهادة قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾ [الطلاق: 2]، والامتناع عنها كتمان محرم للشهادة قال تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283] فأنت حين ترى الأكفاء يُغيَّبون ويتصدر الأقل منهم وأنت قادر بصوتك وشهادتك على تقديم الأكفأ واستبعاد الأضعف وربما الأسوأ فقد فوّت مصلحة كبرى على المسلمين والمجتمع بإحجامك وامتناعك، والمشاركة السياسية تعكس إيجابية المسلم وحقيقة فهمه للدين والكون، وأنه يحمل رسالة إصلاحية للمجتمع والإنسانية والكون كله، وبهذه الرسالة يتحقق مقصد الشهادة على الناس ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143]
- المشاركة السياسية في قصة يوسف عليه السلام وفي حديث السفينة: إن سيدنا يوسف عليه السلام وقصته في القرآن الكريم هي نموذج رائع للفعل السياسي في أعلى صوره، فقد تعرض للظلم والامتحان بالسجن بضع سنين ولما خرج من السجن أنقذ البلد من مجاعة اقتصادية بتفسير الرؤيا للملك بل عرض نفسه ليتولى الوزرات الثلاثة في حكومة غير مسلمة فقال: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، وحديث السفينة في صحيح البخاري ينطبق على واقعنا اليوم وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” مَثَلُ القائِمِ علَى حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فيها، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا علَى سَفِينَةٍ، فأصابَ بَعْضُهُمْ أعْلاها وبَعْضُهُمْ أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا علَى مَن فَوْقَهُمْ، فقالوا: لو أنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فإنْ يَتْرُكُوهُمْ وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا علَى أيْدِيهِمْ نَجَوْا، ونَجَوْا جَمِيعًا” ونحن نشاهد اليوم من المرشحين والأحزاب من يتعمد خرق السفينة ولا نأخذ على أيديهم بالمشاركة السياسية الواعية والتكتل المؤثر، والنتيجة هي أن الخطر والغرق لن يضر من خرق السفينة وحده وإنما سيعود على الجميع.
- المشاركة السياسية لمهاجري الحبشة: عبَّر الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة عن أعلى صور المواطنة الصالحة الإيجابية وتجاوزوا المشاركة السياسية حيث عرض سيدنا جعفر بن أبي طالب على النجاشي أن يقاتلوا معه ضد من خرج ينازعه في ملكه ولكن النجاشي رفض؛ فقارِن بين تقصير المسلمين في ألمانيا اليوم وعزوفهم عن مجرد التصويت الانتخابي المؤثر، وبين مهاجري الجبشة الذين يخاطرون بحياتهم بالقتال تحت راية حاكم غير مسلم ومجتمع ذي أكثرية غير مسلمة!! ولا يمكننا القول بأنه فقط كان اجتهادا من الصحابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على تواصل معهم ومتابعة لأخبارهم والزمن كان زمان تشريع، فهو من قبيل السنة التقريرية؛ حيث لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
- القواعد الفقهية والأصولية: قرَّر علماء الأصول أن: ” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” فالصلاة واجبة ولا تتم إلا بالوضوء فالوضوء واجب وشرط لصحتها، وكذلك حراسة القيم المشتركة في المجتمع الألماني وحماية المكون المسلم والحفاظ على مكتسباته ومنع القوانين المقيدة للحريات الدينية كل ذلك واجب ولا يتم إلا بالمشاركة السياسية، إذن المشاركة السياسية واجبة. وأيضا قرر علماء الأصول أن: “وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل” فهدف المشاركة السياسية هو تكثير المصالح وتقليل المفاسد ولا سبيل لذلك إلا بالمشاركة السياسية الواعية، وفي الجمعة القادمة إن شاء الله نرد على شبهات الرافضين للمشاركة ونضع معايير وضوابط الاختيار والمفاضلة بين المرشحين والأحزاب.
اللهم احفظ عبادك المستضعفين في غزة وكن لهم وليا ونصيرا، واصلح فساد قلوبنا، وأصلح أولادنا، وبارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان واكتبنا فيه من عتقائك من النار ومن المقبولين الفائزين والحمد لله رب العالمين.