إرسل فتوى

الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في استبشاره وتفاؤله

الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في استبشاره وتفاؤله299325_478233675543598_625899702_n

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 19 سبتمبر 2025م

الحمد لله رب العالمين، والصلاة  والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، ففي شهر مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نذكر جانباً من جوانب الاقتداء به فيه وهو الاستبشار والتفاؤل والفرح، وقد يبدو الحديث عن التفاؤل والاستبشار في هذه الأيام العصيبة ومع هذه الأحداث المؤلمة التي تمر بها الأمة ويعيشها أهلنا في غزة يبدو غريباً، فعن أي استبشار تتحدث وأي شيء في عالمنا يدعو للتفاؤل والفرح؟

 ألم تسمع وترى ما جرى ويجرى في غزة الأبية من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعملية البرية التي يشارك فيها 200 ألف جندي وتُقصف فيها العربات التي تحمل المدنيين والأطفال المهجَّرين عن ديارهم وأرضهم؟

ألم تشهد دموع الأمهات الثكالى وهنَّ يودعنَّ بيوتهنَّ ويهاجرنَّ إلى المجهول حيث لا أمن ولا مأوى ولا طعام ولا شراب؟

ألم تتابع قمة العرب المخيبة للآمال والتي لم تتجاوز الكلمات والإدانات الباهتة التي لا تتكافأ مع عِظم وهول الأحداث التي نشعر معها وكأن القيامة قد قامت؟!!

بلى بلى سمعتُ وشاهدت وتابعت وحزنت وتحسرت وتألمت وبكيت حتى جف دمعي ولم أعد أجد حتى دموعاً أذرفها على حالنا وأحوالنا، وهذا هو سبب عودتي للاقتداء برسولنا وشفيعنا في الاستبشار والتفاؤل في أوقات الشدة والخوف وبلوغ القلوب الحناجر، وهو بأبي وأمي قدوتنا وأسوتنا ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]

وأهم ما نحتاجه في هذه الأوقات العصيبة التفاؤل والاستبشار المصاحب والمحفز على العمل، وقد وجدتُ أنَّ الأنبياء جميعاً تفاءلوا واستبشروا وقت الانكسار والشدة؛ فهذا موسى عليه السلام ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21] 

يتآمر الملأ عليه ويخرج إلى مدين دون طعام أو كساء أو صديق أو بيت، لكنه يمتلأ أملاً في وجه الله الكريم أن يهديه وينعم عليه قال تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 22] 

وهذا يعقوب عليه السلام يتفاءل بعودة ولده يوسف مهما طال الزمن ويحذر أولاده من الاستسلام لليأس والقنوط قال تعالى: ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87] 

ومثلهم نوح عليهم السلام المتفائل بإيمان قومه رغم صدهم وكفرهم فيلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما داعياً ومبشراً، ومثلهم إبراهيم وأيوب عليهما السلام.

وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يبث الأمل والتفاؤل في نفوس الصحابة في حديث خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ، قال:  شَكَونا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهُو مُتوسِّدٌ بُردَةً له في ظِلِّ الكَعْبةِ، قُلنا له: ألَا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألَا تَدْعو اللهَ لنا؟ قال: كان الرَّجلُ فيمَنْ قبلَكم يُحفَرُ له في الأرْضِ، فيُجعَلُ فيه، فيُجاءُ بالمِنشارِ فيُوضَعُ على رأسِهِ فيُشَقُّ باثنتَينِ، وما يصُدُّه ذلك عن دِينِه، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحَديدِ ما دُونَ لَحمِه مِن عظْمٍ أو عَصَبٍ، وما يصُدُّه ذلك عن دِينِه، واللهِ لَيُتِمَّنَّ هذا الأمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ، لا يَخافُ إلَّا اللهَ أو الذِّئبَ على غَنَمِه، ولكنَّكم تَستعجِلونَ” البخاري.

ويتفاءل بعد الجدب والقحط وانقطاع المطر في صلاة الاستسقاء بتحويل الرداء أملا في تغيير الحال وتحوله إلى حال أفضل، ويستخرج الإحباط واليأس من نفس سيدنا الطفيل بن عمرو الدوسي عندما أعرض قومه عنه ورفضوا دعوته إياهم للإسلام مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم فيقول له الحبيب صلى الله عليه وسلم داعياً لهم مستبشراً بإسلامهم:” اللهم اهد دوساً وأت بهم”، وإذا كنا قد تحدثنا سابقاً عمَّا أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاليوم نتكلم عمَّا أفرحه، ومن أهم مشاهد ومواقف الفرح في حياته صلى الله عليه وسلم ما يلي:  

1- فَرَحُه صلى الله عليه وسلم بمسارعة الصحابة لإغاثة أصحاب الفاقة:

فعن جَرِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: “كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ، عُرَاةٌ، مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ العَبَاءِ [أي: أنَّ الواحِدَ منهم ليس عليه إلاَّ ثوبه؛ قَطَّعَهُ لِيُسْتُرَ به عَورتَه، وقد رَبَطَه على رقَبَتِه]، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ [استعدادًا لِمَا يُؤمرون به من الجهاد رضي الله عنهم]، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ.

فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الفَاقَةِ [تغيَّر وجْهُهُ وتلَوَّنَ؛ لِمَا رأى فيهم من الحاجة، وهم مِنْ مُضَرَ، مِنْ أشرافِ قبائلِ العرب، وقد بلغَتْ بهم الحاجة إلى هذه الحال]،

فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ، وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، وحَثَّ أصحابَه على الصَّدقة… قَالَ جَرِيرٌ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ [أي: مِنَ الشَّيءِ المُذَهَّبِ، وهو المُمَوَّهِ بالذَّهَب]” رواه مسلم.

وإذا أردنا أن يفرح بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنبادر لإغاثة أهلنا وإخواننا في غزة بكل صور وألوان الدعم والإغاثة، ومما يُفرح القلب ويبهج الفؤاد مسارعة عدد من الأوروبيين للمشاركة في أسطول الصمود العالمي لإغاثة غزة، وفي نابولي إيطاليا أُعلن عن إضرابٍ في كل قطاعات المواصلات 22 سبتمبر تضامنا مع غزة ومطالبةً بإيقاف الحرب والعدوان المستمر على أهلها، ويتعين على مسلمي أوروبا المبادرة والانضمام لكل مبادرة إغاثية تجسِّد هذه القيمة التي أفرحت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهلل وجهُه لأجلها استبشاراً.

2- فرحُه صلى الله عليه وسلم بدفاع الصحابة عن الرسالة والمبدأ: فعن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا لأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ [أي: مِنْ كُلِّ شيءٍ يُقابِلُ ذلك من الدُّنيا، والمراد المبالغة في عَظَمَةِ ذلك المَشْهَد]. أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24]وَلَكِنَّا: نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَخَلْفَكَ.

فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْرَقَ وَجْهُهُ، وَسَرَّهُ – يَعْنِي: قَوْلَهُ. رواه البخاري.

وثبات وصمود أهل غزة دفاعاً عن المبدأ والمقدسات مما يُفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُفرحنا رغم مرارته وألمه، ورغم حزننا لعجزنا وهواننا.

3- فرحُه صلى الله عليه وسلم بقبول توبة أصحابه:

فقد فَرِحَ بتوبَةِ اللهِ تعالى على كَعْبِ بنِ مالكٍ، وأصحابِه رضي الله عنهم: قَالَ كَعْبُ بنُ مالِكٍ رضي الله عنه – في قِصَّةِ تَخلُّفِه عن غَزوةِ تبوك: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم – وَهْوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ». قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» رواه البخاري ومسلم.

وإذا أردنا أن يفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا فلنتب إلى الله توبةً صادقة عسى أن يتقبلها منا وتكون سببا في تفريج الكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة الأبية.   

4- فرحه صلى الله عليه وسلم بهداية الناس إلى الإسلام:

فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهريِّ: “أَنَّ أُمَّ حَكِيمٍ بِنْتَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، كَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، فَأَسْلَمَتْ يَوْمَ الفَتْحِ، وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ مِنَ الإِسْلاَمِ، حَتَّى قَدِمَ اليَمَنَ. فَارْتَحَلَتْ أُمُّ حَكِيمٍ، حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ بِاليَمَنِ، فَدَعَتْهُ إِلَى الإِسْلاَمِ؛ فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الفَتْحِ. فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبَ إِلَيْهِ فَرِحًا، وَمَا عَلَيْهِ رِدَاءٌ حَتَّى بَايَعَهُ”

كما فَرِحَ صلى الله عليه وسلم بإسلامِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِم: فلمَّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقال له: “فَإِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا” واليوم يُفرحنا اعتناق بعض الأوروبيين الإسلام بسبب أحداث غزة، وعلينا مضاعفة جهدنا في البلاغ والبيان ليفرح بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اللهم فرِّحنا برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، لا تحرمنا شفاعته، أحينا على سنته، وأفرحنا بنصر مبين قريب لأهلنا في غزة تشف به صدور قوم مؤمنين، وترد به الحق للمستضعفين، وتنتقم به من الطغاة الظالمين، والحمد لله رب العالمين.

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي
المقالات: 161