إرسل فتوى

الأوطان: فطرة المحبة، ووجوب الحماية

الأوطان5feb3633c10641151628623

 فطرة المحبة، ووجوب الحماية

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 31 يناير 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن مشهد عودة مئات الآلاف من أهل غزة إلى الشمال وهم يحملون جراحاتهم وآلامهم وبقية من ذكرياتهم التي أبقتها لهم الحرب الظالمة؛ فما من أحد فيهم إلا وذاق مرارة الفقد حيث قتل قريب له وفقد بيته وما يملك، وهم رغم ذلك يعودون إلى الشمال فرحين مغنيين طربين صغارا وكبارا رجالا ونساءً شبابا وشيبانا، هذا المشهد سيخلده التاريخ لشعب أبي صامد صابر على ما أصابه وهو مشهد يستوجب التأمل والنظر ويحتم علينا العودة إلى فهم منزلة وقيمة الأوطان في قلوب أصحابها، واليقين بأن محبة الأوطان مسألة فطرية جبلية؛ لهذا سوى القرآن الكريم بين مرارة قتل النفس ومرارة الإكراه على ترك الوطن، وجعل التضحية بهما من أشق التكاليف على النفس فقال تعالى:  ﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُوا۟ مِن دِیَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِیلࣱ مِّنۡهُمۡۖ﴾ [النساء: 66]

وهذا في سائر الأوطان فكيف بغزة وأرض فلسطين المباركة التي وصفها الله بالبركة في سبعة مواطن من كتابه الكريم، والتي فيها أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولمـــَّا أُكره النبي صلى الله عليه وسلم على ترك وطنه الذي وُلد وربي فيه قال: “أمَا واللهِ إني لأَخرجُ منكِ وإني لأعلمُ أنك أحبّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأكرمهُ على اللهِ، ولولا أهلكِ أخرجُوني منك ما خَرجتُ” الترمذي وابن ماجة بسند صحيح. فكيف يُقبل بحديث عن تهجير أناس عن أوطانهم وإخراجهم منها في العالم الذي يزعم التحضر والإنسانية والقانونية؟ ألم يكن الأولى بهذا العالم أن يتوب من خطيئته بحق أهل غزة نساء وأطفالا وأن يضمد جراحهم وأن يتركهم ينعمون بالعيش في وطنهم المدمر؟ لكن من لم ينصف ويعدل أولاً لا ينتظر منه أن ينصف ويعدل آخرا!!

ولقد بالغت الحركات الإسلامية في تعظيم أمر الأمة والانتماء إليها وهذا حق لا شك خاصة بحق المسلمين في الغرب ولكنه جاء على حساب تأخير الانتماء والمحبة للأوطان، وهو أمر حقيق بالمراجعة والتصويب، ومن معالم وجوب الانتماء والحماية للأوطان ما يلي:

  1. الدعاء للأوطان: فقد دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام لوطنه مكة المكرمة فقال: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا بَلَدًا ءَامِنࣰا وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ ﴾ [البقرة: 126]، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لوطنه المدينة فقال: ” اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، وصَحِّحْهَا، وبَارِكْ لَنَا في صَاعِهَا ومُدِّهَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بالجُحْفَةِ” البخاري. والمسلمون في الغرب مطالبون كذلك بالانتماء لأوطانهم الأوروبية والحرص على القيام بواجباتهم فيها قبل البحث عن حقوقهم، والدعاء لتلك البلاد مشروع ومرغوب كذلك؛ فإن الصحابة لما هاجروا للحبشة وقامت ثورة مسلحة داخلية ضد النجاشي قاموا بالليل يصلون ويدعون الله تعالى أن يظهره الله على من خرج ينازعه في ملكه.
  2. صد العدوان عنه: القرآن الكريم يقرر أن من أسباب الإذن بالقتال الدفاع عن الأوطان ومحاولة إكراه أهلها بالخروج منها قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]وتقرر الأمر نفسه في قصة طالوت وجالوت قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 246] فالدفاع عن الأوطان ضد العدوان عليها وإكراه أهلها على الخروج منها مشروع بل واجب، ولا يختلف الأمر بحق مسلمي أوروبا؛ فقد عرض سيدنا جعفر بن أبي طالب على النجاشي أن يقاتل معه ضد من خرج عليه، ولما رفض النجاشي أرسلوا الزبير بن العوام ونفخوا له قربة عام عليها ليتابع تطورات القتال حتى إذا لزم الأمر تدخلوا رغم كونهم أقلية مسلمة في بلد أكثريته غير مسلمة وحاكِمهُ وقانونُه غير إسلامي.  
  3. الإسهام في بنائه وتنميته: لقد خلق الله الإنسان لعبادته قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وطالبه بتعمير الأرض والاستخلاف فيها فقال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها﴾ [هود: 61]، ورسالة المسلم هي تعمير الأرض والعمل على حماية وطنه وصيانته والإسهام في بناء وصناعة حضارته وذلك وفق الضوابط الشرعية، والأصول المرعية، والأمة في مجموعها مطالبة بالإسهام في تعمير غزة وتوفير الغذاء والدواء لأهلها وأن لا يكرروا الخذلان الذي وقع منهم أثناء الحرب، وأن لا يقبلوا بإكراه أحد على ترك وطنه الذي يحب وإليه ينتمي.
  4. الالتزام بنظمه وقوانينه: لا استقرار ولا أمان للأوطان إلا بالالتزام بنظمها وقوانينها، والخروج على القوانين والنظم هو اتجاه للفوضى والخراب، ولهذا وضع النبي صلى الله عليه وسلم صحيفة المدينة، تلك الوثيقة المنظمة للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وتنظم الحياة أيضا بين المسلمين وبعضهم، والواجب على المسلمين في الغرب الالتزام بالقوانين والنظم، والواجب على العالم احترام القوانين التي تمنع تهجير الشعوب وإخراجهم من أوطانهم كرها بغير حق، كما يجب على المسلمين في الغرب المشاركة السياسية الفاعلة في كل استحقاق انتخابي واختيار المرشح الأكفأ والأقدر على حراسة القيم ومنع التمييز، والمنحاز للمستضعفين ضد المعتدين والمحتلين.

اللهم كن للمستضعفين في غزة وسوريا والسودان وكل مكان سندا ومعينا ووليا ونصيرا، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، أتم عليهم نعمتك ونصرك وبركاتك، وصد عنهم كيد الكائدين ومكر الماكرين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر الأوطان، والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80