إرسل فتوى

افتقار البشرية لأنوار الرسالة المحمدية

افتقار البشرية لأنوار الرسالة المحمدية

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا 12 سبتمبر 2025م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد

فإن ما نشهده ونتابعه من تطورات الحرب والصراع القائم منذ قرابة العامين يشير إلى أن قطار البشرية يسير نحو الهاوية!!!

فالعدوان المستمر لا سقف له، توحش وعدوانية غير مسبوقة، حرب بلا أخلاق أو قيم.

معاهدات واتفاقيات تُنقض، تدليسٌ وكذب ونقض للعهود، توسيع دائرة التشهي والانتقام وقتل الأبرياء والمدنيين دون حاجة رغم إمكان تجنب قتلهم مع تطور أدوات الحرب.

أجيالٌ تشعر بالخيبة وفقدان الأمل في الحاضر والمستقبل بعد سيطرة شريعة الغاب وعدم الاحتكام إلى قانون يردع المعتدي.

جنونٌ وفقدان للعقل يسيطر على الساسة وصناع القرار في العالم، ننام ونستيقظ كل يوم على حدث جديد تُخرق فيه كل الثوابت والبديهيات والأخلاقيات والقيم.

ليس في القوم رجل رشيد عاقل يوقف هذا العبث ويمنع حمام الدم المستمر منذ قرابة العامين.

وعلى الجهة الأخرى حال العرب والمسلمين لا يسر عدواً ولا حبيباً، فقد بلغوا من الهوان والضعف والفرقة والمذلة وانتقاص الكرامة حالاً تعجز اللغة عن وصفه وبيانه، وأمام هذه الصورة المعتمة ونحن في شهر ربيع الأول نقبس من أنوار وهدي نبينا صلى الله عليه وسلم ونستشعر افتقار العرب والمسلمين بل والبشرية لأنوار ورحمانية الرسالة المحمدية، ومن أهم ما تفتقر إليه البشرية في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ العالم ما يلي:

1- غايات الحرب في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

الحرب في الإسلام كما قررها محمد صلى الله عليه وسلم كانت وسيلة لا غاية، وإذا أمكن أن تتحقق الغاية بوسيلة غيرها انتفت الحاجة إليها، وكان صلى الله عليه وسلم يؤجلها ويؤخرها حتى تكون آخر الحلول، ولهذا كانت كل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم دفاعية اضطر إليها اضطرارا، وتأملوا في قول على بن أبي طالب وهو يحمل الراية في غزوة خيبر: يا رسول الله ! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: “انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنزِلَ بساحتِهم، ثمَّ ادْعُهم إلى الإسلامِ، وأَخبِرْهم بما يَجِبُ عليهم من حقِّ اللهِ تعالى فيه، فو اللهِ لأنْ يهدِيَ اللهُ بِكَ رجلًا واحدًا خيرٌ لك مِنْ حُمرِ النَّعمِ”. متفق عليه.

ويمكن إيجاز غايات وأهداف الحرب في الإسلام فيما يلي:

أولاً: الدفاع عن النفس:

قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39-40]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]

ثانياً: رد المظالم واسترداد الحقوق المسلوبة.

ثالثاً: نصرة المظلومين وتحرير المستضعفين.

قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75]

رابعاً: القتال رداً على نقض العهود وخيانة المواثيق:

قال تعالى: ﴿وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة: 12-13]

فأين غايات الحرب الحديثة من غايات الحرب في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إن حروب اليوم تقوم على احتلال الدول، ونهب الثروات، وإذلال الشعوب وإفقارها، واستعباد القوي للضعيف، وهي حروب تغيب عنها تلك الغايات الشريفة المشروعة، لهذا فإن البشرية اليوم تفتقر بحق إلى أنوار الرسالة المحمدية.     

2- وجوب الوفاء بالعهود وصيانة المواثيق في حياة محمد صلى الله عليه وسلم:

الوفاء بالعهود وصيانة المواثيق في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم مبدأ كلي أصيل لطالما دعا إليه وحث عليه.

وعدَّ ناقض العهد فيه صفة من صفات النفاق قال صلى الله عليه وسلم:” أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَر” متفق عليه.

وقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إنهم إذا عاهدوا عهداً وأمنَّوا قوماً إلى مدة معلومة فيجب عليهم الوفاء بذلك العهد والالتزام به مهما حدث ولا يتخذ من ذلك العهد وسيلة للغدر والخيانة، والحروب الحديثة تعد الخيانة ونقض العهد دهاء حربياً وذكاءاً استراتيجياً وهو في منظور الإسلام خيانة قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 4]

وقد صان رسول الله صلى الله عليه وسلم العهد في صلح الحديبية رغم الإجحاف في بعض بنوده حيث جاءه أبو جندل مسلماً بعد الصلح فردَّه وفاء بالعهد، وحثه على الصبر وبشَّره بأن الله جاعلٌ له ولمن معه من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، ثم قال كلمته الوضيئة: “إنا قد صالحنا هؤلاء القوم وعاهدناهم وإنا لا نغدر”

واليوم نرى على الهواء مباشرة نقض العهود والمواثيق وقتل المستأمنين والمعاهدين دون رقيب أو حسيب في سقوط علني مدوٍ لمنظومة القيم الغربية المعاصرة!! أين هذا من قوله صلى الله عليه وسلم:” مَن قَتَلَ نَفْسًا مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ أرْبَعِينَ عامًا” البخاري.

3- تأسيسه وتطبيقه صلى الله عليه وسلم للأخلاق الحربية:

لم يكن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الأخلاق الحربية على سبيل الاختيار بل على سبيل الوجوب والإلزام ومن خالفه فهو عاص لله ورسوله.

بل كان القائد العسكري الذي لا يلتزم بآداب الحرب وأخلاقه يُعزل من منصبه مهما حقق من انتصارات؛ فقد عزل عمرُ بن الخطاب خالدَ بن الوليد لأنه بالغ في موقعة من المواقع في الشدة رغم أنه حقق انتصارات كبرى، وكان واحداً من أعظم القادة العسكريين في تاريخ الإسلام، وأخلاق الحرب في الإسلام موضوع طويل وواسع أُلفت فيه المطولات والمختصرات.

والحروب الحديثة عادة ما يشعلها الساسة، ويصطلي بنارها الجنود، والمدنيون هم الذين يدفعون الثمن، وقد رأينا على الشاشات والشبكات مشاهد دامية مؤلمة لاستخفاف الجنود بقتل النساء والأطفال والمدنيين ودور العبادة في غياب تام لأدنى درجات الإنسانية والأخلاق، وهذا يشبه ما ذكره أحد الجنود أنه تراهن مع صاحبه بعد بقر بطن امرأة حامل هل تحمل جنينا ذكراً أم أنثى!!

أما رسول الرحمة والمرحمة والإنسانية والرحمانية حتى في الحروب فلا يحارب إلا من يحارب فقط، ولا يعتدي إلا على المعتدي، وقد كانت هذه أوامره لقادة جيشه:” انطلقوا باسم الله، وبالله وعلى ملة رسول الله،ولا تقتلوا شيخا فانياً، ولا طفلاً ولا صغيراً ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين”

ونهاهم عن التمثيل بالقتلى، وعدم الإفساد في الأرض، وإعطاء الأمان لمن طلبه، والتوقف عن الحرب إذا توقف العدو، ونهاهم عن نهب الأموال والغنيمة.

أين هذه الأخلاق وتلك القيم من الحرب الجارية الآن؟!

4-الغاية لا تبرر الوسيلة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

لم يعرف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هذا المبدأ الغربي المسيطر على السياسة والحروب اليوم وهو المبدأ الميكافللي أن الغاية تبرر الوسيلة، وإنما علَّم محمدٌ صلى الله عليه وسلم أصحابَه أن شرف الوسيلة من شرف الغاية، وأن الغاية الشريفة لا يتوصل إليها بوسيلة غير نظيفة، فلم يكن معيار الانتصار في الحروب والغزوات فقط بهزيمة العدو أو قتل عدد كبير من جنده، وإنما كان بمقدار الالتزام بضوابط وأخلاق الحرب التي حددها محمد صلى الله عليه وسلم لجيشه، ولم تعرف البشرية الحديث عن أخلاق الحرب إلا بعد أن وقَّعت دول العالم على أربع اتفاقيات سميت بمعاهدات جنيف سنة 1949م والبروتوكلين الإضافيين لهما عام 1977م.

وقد عاب هذه الاتفاقيات: أنها رضائية غير ملزمة، وعدم وجود قوة حاكمة تتبنى هذه الاتفاقيات لدى الأمم المتحدة أو غيرها لضمان التنفيذ من الموقعين عليها، فبقيت حبراً على ورق لا تنفذ إلا على الضعفاء بإرادة الأقوياء وقوتهم.

أما أخلاق الحرب في دين محمد صلى الله عليه وسلم فدِينٌ وتعبدٌ لله يراقب الجنود فيها ربهم قبل النظم والقوانين.

أرأيتم كيف أن البشرية اليوم فقيرة إلى الأنوار المحمدية والرسالة الرحمانية لدين العدل والسلام دين الإسلام؟!!

اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وعجل بتفريج الكرب وإيقاف الحرب عن أهلنا وإخواننا في غزة، وكن لهم ولياً ونصيراً وسنداً ومعيناً، والحمد لله رب العالمين. 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 81