إرسل فتوى

أنفَسُ ما نَملك وأسهلُ ما نُضيِّع

خطبة الجمعة بمسجد المهاجرين. بون. ألمانيا. 26 يوليو 2024م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد، فقد بدأت العطلة الصيفية وبدأ معها التفنن في إضاعة الوقت وقتل الزمن، والزمن والوقت هو أنفس وأعز ما يملك الإنسان، وهو رأس ماله الذي لا يعوضه المال، والأمنية الوحيدة للإنسان ساعة الاحتضار أو بعد الموت هي أن يُمنح فرصة من العمر والوقت ليستثمرها ويغتنمها قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ‌ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ [المؤمنون: 99-100] والمسلم سيسأل يوم القيامة عن الوقت والزمن كما جاء في الحديث الصحيح:” لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: … وعن عمره فيما أفناه”، وقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عَنِ ابنِ عباسٍ – رضي اللهُ عنهما – قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ” نِعمَتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصَّحَّةُ والفَّراغُ” ، أي: لا يعرف قدرهما كثير من الناس، فالمغبون هو الذي يبيع الشيء النفيس الغالي بأقل من ثمنه بكثير، فتخيل إنساناً باع بيتاً قيمته 500 ألف بعشرين ألف!! هكذا نفعل بأنفس ما نملك فنضيع الوقت والعمر فيما لا يفيد، ونفوت أفضل سنوات عمرنا حيث نكون أصحاء أقوياء دون تحقيق للاستثمار الأمثل والأكمل، ولو قرأنا أحوال أئمة السلف في استثمار الوقت لرأينا عجباً؛ فهذا أحدهم كان يفضل الطعام الذي لا يحتاج إلى مضغ حتى لا يضيع معه الوقت فيقول:” ما بين مضغ الطعام وشرب الفتيت كتابة مسألة”

وهذه توجيهات ونصائح للمسلمين في أوروبا في العطل والإجازات:

1-الترويح مطلوب بضوابطه الشرعية:

الترويح عن النفس في العطل والإجازات خاصة للمسلمين في أوروبا مطلوب وضروري؛ لإظهار جانب مهم من جوانب شمولية الإسلام وتكامله، ولنفي الصورة القاتمة المغلوطة عنه الرافضة لكل صور الترويح واللهو والضحك أو السرور، ولكسر روتينية ورتابة الحياة الأوروبية، ولئلا يشعر أولاد المسلمين في الغرب بالدونية الحضارية وأن التدين يحرمهم مما يتمتع به غيرهم من زملائهم وأقرانهم، ولتكن لنا نية في الترويح واللهو وهي استعادة النشاط للعبادة والعمل، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على حنظلة رضي الله عنه ظنه أن الدين يُلزمه بالعبادة الدائمة قائلاً:” يا حنظلة ساعة وساعة” وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:” روحوا عن القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة فإنها تملُّ كما تمل الأبدان” ويجب أن ينضبط الترويح بضوابطه الشرعية وأهمها: عدم الانشغال عن الصلاة، وغض البصر، واحتشام النساء في الملابس، وتجنب مشاهدة الأفلام المحرمة شرعا صورةً أو قيمة ومضموناً.

2- استثمر عطلتك في إنجاز لا يضر بالترويح:

الاستجمام والراحة في العطلة لا يتعارض مع الإنجاز كتعلم شيء جديد، أو قراءة كتاب مفيد، أو سماع حوارات تنمي المعرفة وتوقظ الوعي وترفع من المستوى الثقافي والشرعي، وهناك مخيمات قرآنية ودعوية تنظمها جمعيات ومساجد في أوروبا تجمع بين الترويح، والثقافة، والتربية الروحية، علينا أن نحرص على الدفع بأبنائنا إليها، وهناك من يذهب إلى رحلة العمرة مع عائلته فيجمع بين الروحانية والأجر والترويح والتغيير.

3-الهواتف والشبكات عدو الوقت والإنجاز:

أخطر قاتل للوقت في عالم اليوم هو الهواتف والشبكات، ولا يتخيل المرء أن يحاسب يوم القيامة على خمس سنين مثلاً من عمره قضاها على الهاتف، وقد أدرك أهل الاختصاص العلمي خطورة الهواتف والشبكات وإدمانها على الناس خاصة الأطفال فألفوا في ذلك الكتب وقدموا البرامج والدورات ولك أن تتعجب حين تقرأ عناوينها مثلاً: كيف تتخلص من هاتفك؟ فنحن بحاجة إلى الانقطاع الجزئي عن هواتفنا في العُطل واستعادة الحوار الأسري، وتقوية الروابط الاجتماعية والحديث الطويل مع أولادنا والتعرف على مشاكلهم وشخصياتهم، وأن نكون قدوةً لهم في التقليل من الوقت المخصص للهاتف والشبكات في اليوم.

4- تجنب الإسراف وإيذاء الآخرين بنشر النِعم:

لقد حذرنا القرآن الكريم من الإسراف فيما هو ضروري فكيف بالإسراف في الترويح واللهو؛ قال تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا ‌تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141]، فعلينا أن نقتصد في أمر الترويح واللهو وأن نراعي شعور غيرنا خاصة من يزور أقاربه في بلده الأصلي يحرص على عدم التفاخر والتباهي أمامهم وإشعارهم بالنقص والحاجة، وعلينا أن نخفي النعم ونطويها ولا ننشرها على مواقع التواصل والشبكات؛ رعاية لمشاعر غيرنا، وإظهاراً للتضامن والشعور بأهلنا وإخواننا المظلومين في غزة.

اللهم لا تدعنا في غمرة، ولا تأخذنا على غرة، ونعوذ بك أن نكون من المغبونين، اللهم فرج الكرب عن أهلنا وإخواننا في غزة، اللهم أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، والحمد لله رب العالمين.

 

د. خالد حنفي
د. خالد حنفي

الدكتور خالد حنفي هو أحد العلماء البارزين المتخصصين في أصول الفقه، وقد حصل على درجة الدكتوراه في أصول الفقه عام 2005. شغل العديد من المناصب العلمية والدعوية والأكاديمية المرموقة في العالمين العربي والإسلامي، خاصة داخل القارة الأوروبية.

المقالات: 80